خواطر 06 الحلقة 19 - الحسبة

الحسبة والاحتساب حتى لا تُخرق السفينة

الحـمـد لله وحـده، والصـلاة والسلام على البشير النذير الذي لا خير إلا دلّ الأمة علـيه، ولا شر إلا حذّرها منه، وبعد:
فإننا في هذا العدد من البيان نتناول موضوع الحسبة والاحتساب وهو ما يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهـو منـهاج إصـلاح ورؤيـة سـديـدة فـي التغـيير عـبَّر عنـها نـبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تعبيراً فريداً؛ حيث سمّى هذه الشَّعِيرة بـ (سفينة المجتمع) في الحديث الصحيح الذي رواه الصحابي الجليل النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ ونصه: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من قبلنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».
فتشبيه هذه الشعيرة بالسفينة صورة حية ومعبرة، ولذا قال أحد الدعاة في شرحه لهذا الحديث كلاماً نفيساً عن ذلك التشبيه: فالحياة كلها هذه السفينة الماخرة في العباب لا تكاد تسكن لحظة حتى تضطرب من جديد، ولن يُكتب لها السلامة قبل الاستقرار فوق تلك الأمواج... فالمجتمع كله (هذه السفينة) التي يركبها البر والفاجر والمتيقظ والغافل، وهي تحملهم جميعاً لوجهتهم، ولكنها وهي محكومة بالموج المضطرب والرياح العاتية من كل جانب؛ وما يريده لها الربان من جانب آخر ـ لتتأثر بكل حركة تقع فيها.
وإن كثيراً من الناس قد ينسى ذلك فيُخيَّل إليه أنه ثابت على البر راسخ لا يضطرب ولا يزول، ومن أجل ذلك يفجُر أو يطغى، ولو تذكر من استكبر ودلس وضلل وافترى، وبخاصة من بعض الكُتَّاب ومنظِّري العلمنة خطورة ما يكتبون، وبخاصة ضد دعاة الفضيلة مثل جنايتهم على الهيئات الخيرية منها أو الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر لو تذكروا ذلك لما استكبروا ولا تجنوا على أحد، ولعادوا لمصدر القوة الحقيقية يستلهمون منه الهـدى، ويطلـبون منه الرشاد، ولساروا على المنهج الذي أمر الله به، وارتضاه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
من هنا جاء هذا الملف تحت عنوان (الحسبة والاحتساب.. حتى لا تُخرق السفينة) واللهَ نسألُ للجميع التوفيق والسداد.
ولَـمَّا كانت الحسبة والاحتساب في الآونة الأخيرة مثار نقاش وحوار خاض فيه كثير من الناس لأهداف متباينة، ناسب الحديث باستفاضة عن هذا الموضوع الهام، حيث تناولنا فيه حقيقة هذه الشعيرة وواقعها المعاش وما تؤديه من أدوار موفقة، وما تتحمله في سبيل أداء دورها من جهود كبيرة، برؤية نحسبها موضوعية تكشف الحقيقة لكل ذي عينين.
قدمنا لهذا الموضوع بطروحات علمية شاملة في هذا الباب ننشرها في حلقتين متتاليتين.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا جميعاً ممَّن يُستعمَلون في طاعته.


أضواء تاريخية حول الحِسْبَة والاحتساب
  محمد بن شاكر الشريف

الإنسان في إطار الشريعة (وفي إطار العقل السليم) ليس معصوماً في كل ما يأتي ويذر من أقوال أو أفعال، ووقـوع الخطـأ منه كثير، لا يخرج عن هذه القاعدة كبير ولا صغيـر ولا رفـيع ولا وضـيع ولا حـاكـم ولا محـكوم، ولا ينجو من حكمها أحد خلا الأنبياء والرسل وذلك لحفظ الله ـ تعالى ـ لهم، وقد بين هذه الحقيقة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «كل بني آدم خطاء.. الحديث». ومن هنا يتبين أن الحِسْبَة ليست قاصرة على تناول عامة الشعب دون الولاة؛ فما الوالي إلا فرد من أفراد الأمة يجري عليه في هذا الباب ما يجري على غيره.
وعليه؛ فكل إنسان محتاج لمن يأمره بالمعروف إذا تركه وخالفه عمداً أو نسياناً، ولمن ينهاه عن المنكر إذا وقع فيه نسياناً أو عمداً، سواء كان كبيراً أو صغيراً أو رفيعاً أو وضيعاً أو حاكماً أو محكوماً، لما له في ذلك من الخير في الدين والدنيا والعاجل والآجل.
والآمر الناهي يدفعه لذلك أمور ثلاثة:
1 ـ رحمة الآمر الناهي بنفسه بقيامه بواجب الأمر والنهي طاعة لأمر الله ـ تعالى ـ ورجاء ثوابه.
2 ـ رحمة المأمور المنهي بتجنيبه مواضع سخط الله تعالى.
3 ـ رحمة الأمة بتقليل الخَبَث فيها؛ لأنه متى ظهر فيها تَرْكُ المعروف، أو فِعْل المنكر من غير تغيير لذلك، أوشك الله ـ تعالى ـ أن يعم الجميع بعقاب منه، حتى مع وجود الصالحين.
وليس من دواعي الأمر والنهي عند الآمر الناهي التسلط على العباد أو التشهير بهم وفضحهم، أو إظهار نقصهم وقصورهم أمام الناس.
فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فَزِعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقـترب، فُـتِحَ الـيـوم مـن ردم يأجــوج ومأجوج مثلُ هذه ـ وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها ـ قالت زينب بنت جحش: فقـلت: يا رسـول الله! أنهـلِك وفـينا الصالحون؟ قال: نعم! إذا كَثُرَ الخَبَث»، فإذا كثر الخبث لم يكن في وجود الصالحين نجاة للأمة.
• الحِسْبة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
لم تكن الحسبة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منظمة في هيئة أو مؤسسة يقوم عليها أناس معينون وفق آلية محددة؛ فقد كان الوضع غير محتاج إلى ذلك؛ فكان المسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالتكليف الأصلي لكل مسلم كما قال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وكما قال: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ} [الحج: 41]، وكان المتوجه إليه بذلك يقبل ممن أمره ونهاه من غير مدافعة ولا مُشَاحَّة.
وقـد أظهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسُه الإنكار على بعض ولاته لما ظـهر منـهم مـا استوجب ذلك؛ فعن أبي حميد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملاً فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال: يا رسول الله! هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقال لـه: أفلا قـعـدتَ في بيـت أبـيـك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثـنى على الله بما هـو أهـله، ثـم قال: أمـا بـعـد: فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أُهدي لي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يَغُل أحدكم منها شيـئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: إن كان بعيـراً جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خُـوار، وإن كـانـت شاة جاء بها تَيْعَر؛ فقد بلَّغت. فقال أبو حميد: ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده حتى إنَّا لننظر إلى عفرة إبطيه».
وقد اتبع الصحابة أنفسهم ذلك المسلك على عهده - صلى الله عليه وسلم - من الإنكار على الولاة المخالفين؛ فلما بلغه ذلك الإنكار أقره ولم يعترض عليه، بل تبرأ من الفعل المخالف؛ وذلك أن الغرض الأسمى هو الدفاع عن الدين وليس المحاماة عن الأشخاص؛ فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه من رواية «سالم عن أبيه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يومٌ أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: واللهِ لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسـيره، حتـى قـدمـنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد!». مرتين.
لكن الأمور الاجتهادية التي تحتمل تعدد الآراء لا ينبغي الاحتساب فيها على الولاة، ولو قُدِّر لأحد أن يحتسب فليكن ذلك بالأسلوب الأحسن الذي فيه توقير الولاة واحترامهم وعدم الجرأة عليهم؛ فعن عوف بن مالك قال: قَتَلَ رجل من حِمْيَر رجلاً من العدو، فأراد سَلَبَه فمنعه خالد بن الوليد وكان والياً عليهم، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عوفُ بن مالك فأخبره، فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سَلَـبَهُ؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه، فمـر خـالد بعـوف فجـرَّ بـردائه، ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرتُ لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغـضب، فقال: لا تعـطهِ يا خـالد! لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟... الحديث، فالمسألة تقديرية بحسب تقدير الوالي وليست نصية؛ بدليل قول خالد: استكثرتُه، ولا يقال هذا فيما فيه النص صريحاً؛ فما كان لمؤمن أن يعترض على قسمة الشارع، لكن لما تكلم الرجل على خالد ـ رضي الله تعالى عنه ـ بطريقة غير مقبولة لما فيها من توهين قدر الأمير، منع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجل الحِمْيَري من السَّلَب بعدما كان قد قَبِلَ بإعطائه له. ومـن عجـيب الأمر أن الحادثتـين وقعتا مع خالد بن الوليد، رضي الله ـ تعالى ـ عنه. فإذا نظرنا للفرق بين تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحالين، ورِدِّ فعله في الحالة الأولى المباين لرد فعله في الحالة الثانية تبين ما قدمناه. لكن هنا ملحـوظ مهم وهـو كون هذا الأمير ممن يلتزمون بالشرع ولا يخرجون عليه، وهو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرائي» لكونه أضافهم إليه وهم لا يكونون إلا كذلك؛ فأمراؤه في حياته - صلى الله عليه وسلم - هم من يعيِّنهم - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وأمراؤه بعد موته هم من يلتزمون شريعته ويتبعون سنته.
• نماذج من حِسْبة الصحابة، رضي الله عنهم:
كان الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ يمارسون ذلك الأمر بعـد رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فعـن أبي سـعيد الخدري: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة؛ فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم؛ فإن كان له حاجة ببعثٍ ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: تصـدقوا تصدقوا تصدقوا! وكـان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف؛ فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجتُ مخاصراً مروان حتى أتينا المصلَّى؛ فإذا كثيرُ بْنُ الصلت قد بنى منبراً من طين ولَبِن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة؛ فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا، يا أبا سعيد! قد تُرِك ما تعلم، قلت: كلاَّ، والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم (ثلاث مرار ثم انصرف). فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو الأمير مخالفته للسنة المعلومة. قال النووي: «وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان المنكَر عليه والياً، وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه، ولا يجزي عن اليد اللسان مع إمكان اليد».
بل كانوا يتـواصون بينـهم بذلك، وكان تنفيذ ما دلت عليه نصوص الشرع أَهْيَبُ في نفوسهم من أمر كل أمير؛ فعن الحسن: «أن زياداً استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على جيش، فلقيه عمران بن حصين في دار الإمارة فيما بين النـاس، فـقال له: أتـدري في مـا جئـتك؟ أما تـذكـر أن رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلـغه الذي قـال له أمـيره: قـم فَـقَعْ في النار، فقــام الرجل ليقـع فيـها فأدركه فأمسكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو وقع فيها لدخل النار، لا طاعة في معصية الله؟ قال الحكم: بلى! قال عمران: إنما أردت أن أذكِّرك هذا الحديث»، وقد أنتجت هذه التذكرة من عمران نتيجتها؛ فقد ذكر الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أن زياداً بعث الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه: أما بعدُ: فإن أمير المؤمنين كتب أن يُصطفى له البيضاء والصفراء، ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة، فكتب إليه الحكم: أما بعد: فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإني أُقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له من بينهم مخرجاً. والسلام. وأمر الحكم منادياً فنادى أن اغدوا على فيئكم، فقسمه بينهم، وإن معاوية لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل، وجَّه إليه مَنْ قيَّده وحبسه، فمات في قيوده ودفن فيها وقال: إني مخاصم».
• تنظيم الحسبة:
وعلى هذا المنهج مضى مَنْ سَلَفَ من الأمة لا يحتاجون في ذلك إلى وضع نظام أو ترتيب آليات لعدم الحاجة إليها، ولكفاية الموجود بالقيام بالواجب في ذلك؛ فلما مسَّت الحاجة إلى تنظيم ذلك، وتكوين هيئة يناط بها ذلك الأمر تكون مسؤولة عنه، أُنشئت هذه الهيئة من غير أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقصوراً عليها؛ فإن التنظيم لا يدفع أصل التكليف ولا يلغيه، بل التنظيم يثبت التكليف ويقويه، ويساعد على إتقانه واستمراره، ومن هنا نشأ تنظيم الحسبة على الولاة، وظهر في التاريخ الإسلامي ما عرف بولاية المظالم التي هي في جزء كبير من اختصاصها النظر في تعدي الولاة وظلمهم، وهي كما قال الماوردي: «والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام:
فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة؛ فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلِّم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً عن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن أنصفوا، ويكفَّهم إن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا.
والقسم الثاني: جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، ويأخذ العمال بها وينظر فيما استزادوه؛ فإن رفعوه إلى بيت المال أمر بردِّه، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه.
والقسم الثالث: كُتَّاب الدواوين والإحاطة بأحوالهم؛ لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه منهم ويوفرونه لهم من الحقوق في الحال والمآل، فيتصفح ما وُكل إليهم تدبيره من الأعمال؛ فإن وجدهم نقدوا الحق في دخل أو خرج إلى زيادة أو نقصان في تفصيل أو إجمال أعاده إلى قوانينه العادلة واستعمل السياسة معهم في المقابلة على تجاوزهم.
وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج وإلي المظالم في تصفحها إلى متظلِّم.
والقسـم الرابع: تظـلُّم المسـترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم وإجحاف النظر بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه وينظر فيما نُقصوه أو مُنعوه من قبل، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.
كتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون أن الجند شعَّبوا ونهبوا، فكتب إليه: لو عدلت لم يشعِّبوا، ولو وفيت لم ينهبوا، وعزله عنهم وأدرَّ عليهم أرزاقهم.
والقسم الخامس: رد الغُصُوب، وهي ضربان: أحدهما: غُصوب سلطانية قد تغلَّب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها، وإما لتعد على أهلها؛ فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفُّح الأمور أمر برده قبل التظلم إليه، وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلُّم أربابه، ويجوز أن يرجع فيه عند تظلُّمهم إلى ديوان السلطنة؛ فإذا وجد فيه ذكر قبضها على مالكها عمل عليه وأمر بردها إليه ولم يحتج إلى بينة تشهد به وكان ما وجده في الديوان كافياً.
والضرب الثاني: من الغصوب ما تغلَّب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا فيها تصرف الـمُلاَّك بالقهر والغلبة؛ فهذا موقوف على تظلم أربابه ولا يُنتزع من يد غاصبه إلا بأحد أربعة أمور: إما باعتراف الغاصب وإقراره، وإما بعلم والي المظالم فيجوز له أن يحكم عليه لعلمه، وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه، وإما بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ، ولا يختلج فيها الشكوك؛ لأنه لما جاز للشهود أن يشهدوا في الأملاك بتظاهر الأخبار كان حكم ولاة المظالم بذلك أحق»، فذكر ـ رحمه الله تعالى ـ خمسة أقسام كلها في الحسبة على الولاة.
• نماذج من احتساب العلماء:
لكن هذا التنظيم لم يمنع من أصل الحسبة الفردية التي يقوم بهـا المسلـمون في مواجهة تعدي بعض الولاة، وقد حفظ لنا التاريخ من ذلك نماذج كثيرة نذكر بعضها، فقد جاء في كتاب (الرتبة في طلب الحسبة): «أن السلطان بمدينة دمشق طلب محتسباً، فذكروا له رجلاً من أهل العلم فأمر بإحضاره؛ فلما حضر بين يديه قال: إني ولَّيتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: إن كان الأمـر كذلك فقم عن هذه الطرَّاحة، وارفع هذا المسـند؛ فإنهـما حرير، واخلع هذا الخاتم؛ فإنه ذهـب، وقـد قـال - صلى الله عليه وسلم -: «هذان حرامـان على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها»، قال: فنهض السلطان عن طراحته، وأمر برفع المسـند، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: ضممت إليك النظر في أمور الشرطة؛ فما رأى الناس محتسباً أَهْيَبَ منه».
وعـنده أيـضاً: «عـن أحمـد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحـسـن النـوري رجـلاً قليـل الفضــول لا يـسـأل عـمـا لا يعنيه، ولا يفـتش عـما لا يحتـاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيَّره، ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى (مَشْرَعَة) تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة؛ إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دَنّاً مكتوب عليها بالقار (لطف) فقرأه، وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التـجارات، ولا في البيوع شيئاً يعبَّر عنه بلطف، فقال الشيخ ـ رضي الله عنه ـ للملاَّح: أي شيء في هذه الدِّنان؟ فقال: وأي شيء عليك؟ امضِ لشغلك؛ فلما سمع النوري ـ رحمه الله ـ من الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته، فقال له: أحب أن تخبرني أي شيء في هذه الدنان؟ فقال الملاح: أنت واللهِ صوفي فضولي، هذا خمر المعتضد بأمر الله يريد أن يتمم به مجلسه، فقال النوري: هذا خمر؟ قال: نعم! فقال: أحب أن تعطيني ذلك الـمِدرى، فاغتـاظ الملاح عليه، وقال لغلامه: أعطه المدرى حتى أنظر الذي يصنع! فلما صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق، فلم يزل يكسرها دنّاً دنّاً حتى أتى على آخرها إلا دنّاً واحداً، والملاح يستغيث؛ إلى أن ركب صاحب الخمر، وهو يومئذ موسى بن أفلح، فقبض على النوري، واستحضره إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قـبل كـلامه، ولـم يشـك الـناس أنه سـيقتله. قال أبو الحسن: فدخلت عليه، وهو جالس على كرسي حديد، وبيده عمود يقلِّبه؛ فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: مُحْتَسِب، قال: من ولاَّك الحسـبة؟ قلت: الذي ولاَّك الإمـامـة ولاَّنـي الحسـبة يا أمير المؤمنين! قال: فأطرق إلى الأرض سـاعة ثم رفع رأسه إليَّ وقال: وما الذي حملك على ما صنعتَ؟ فقلت: شفقةً مني عليك؛ إذ بسطت يدي إلى صَرْف ِمكروه عنك فقصرت عنه، قال: فأطرق مفكراً من كلامي، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلَّص هذا الدن الواحد من جملة هذه الدنان؟ فقلت: في تخلُّصه علة أُخبِر بها أمـيـرَ المؤمـنين إن أذن لـي، فقـال: أخـبرني، فقلت: يا أمير المؤمـنين! إني أقـدمت على الدنـان بمطـالـبة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بذلك، وعمَّ قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة، فغابت هيبة الخلق عني، فأقدمت عليه بالحال الأول، إلى أن صرت إلى هذا الدَّنِّ، فجزعت نفسي كثيراً على أني قد أقدمت على مثلك فمنعت نفسي، ولو أقدمت عليـه في الحـال الأول، وكانت ملء الدنيا دناناً لكسرتها ولم أبالِ». ويعلق الماوردي على هذه القصة بقوله: «فهذه كانت سيرة العلماء، وعاداتهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة الملوك، لكنهم اتكلوا على فضل الله أن يحـرسـهم، ورضوا بحكـم الله أن يـرزقـهم الشـهادة؛ فلما أخلصوا لله النية أثَّر كلامهم في القلوب القاسية، وأزال قساوتها وآمالها، وأما الآن فقد استولى عليهم حب الدنيا، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل؛ فكيف على الملوك والأكابر؟ والله المستعان على كل حال».
ثم يقول ـ رحمه الله ـ: «وكانت من عادات السلف الحسبة على الولاة قاطعاً بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، وكل من أمر بالمعروف، وإن كان المتولي راضياً فذلك، وإن كان ساخطاً فسخطه عليه منكر يجب الإنكار عليه، وكـيف يحـتاج إلى إذنـه؛ ويـدل عـلى ذلك سـنن السـلف في الإنـكار على الأئمة. كما روي أن مروان بن الحكم خطـب قبـل الصـلاة في العيـد، فقال له رجـل: إنما الخطبة بعد الصلاة! فقال مروان: تُرِكَ ذلك يا أبا فلان! فقال له أبو سعيد: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكراً فلينكره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»؛ فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحته؛ فكيف يُحتاج إلى إذنهم؛ لأن الحسبة عبارة عن المنع من منكر لحقِّ الله صيانةً للممنوع عن مقارنة المنكر. وعن سفيان الثوري قال: حج المهدي في سنة ست وستين ومائة، فرأيته يرمي جمرة العقبة، والناس محيطون به يميناً وشِمالاً يضربون الناس بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه! حدثَنَا أيمن بن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة يوم النحر على جمـل لا ضَـرَبَ، ولا طَرَدَ، ولا جَلَدَ، ولا إليكَ إليك!» وها أنت يخبط الناس بين يديك يميناً وشمالاً، فقال لرجل: من هذا؟ قال: سفيان الثوري، فقال: يا سفيان! لو كان المنصور ما احتملك على هذا، فقال: لو أخبرك المنصـور بما لقـي لقصرت عما أنت عليه، قال: فقيل له، لِمَ قال لك: يا حسن الوجه، ولم يقل يا أمير المؤمنين؟ فقال: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه، واختفى».
ولم يزل على هذا النهج كثير من العلماء ممن حفلت بذكرهم كتب التراجم والتاريخ؛ فها هو ذا علي بن محمود ابن علي القاضي قال عنه الذهبي: شيخ فقيه إمام عارف بالمذهب موصوف بجودة النقل حسن الديانة قوي النفس ذو هيبة ووقار، بنى الأمير ناصر الدين القيمري مدرسة بالحريميين وفوض تدريسها إليه وإلى أولي الأهلية من ذريته، وقد ناب في القضاء عن ابن خلكان، وتكلم بدار العدل بحضرة الملك الظاهر عندما احتاط على الغوطة فقال: الماء والكلأ والمرعى لله لا يُملك، وكل من في يده ملك فهو له، فبهت السلطان لكلامه، وانفصل الموعد على هذا المعنى».
وها هو ذا النووي يقول عنه السخاوي: «وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار لا يأخذه في الله لومة لائم، بل كان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها». وقد كتب ورقة إلى السلطان الظاهر بيبرس تتضمن العدل في الرعية، وإزالة المكوس عنهم، وكتب معه في ذلك غير واحد من الشيوخ وغيرهم؛ فلما وقف السلطان على الورقة، جاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد لهم، فكتب له النووي جواباً مطولاً، وكان مما جاء فيه: «وجميع ما كتبناه أولاً وثانياً وهو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيه ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في الرفق بالرعية والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبنا» ثم قال: «وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي، فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلـطان؛ فإني أعتقد أن هذا واجب عليّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله ـ تعالى ـ: {يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقول الحق حيثما كنا، وألاَّ نخاف في الله لومة لائم.
ونحـن نحب للسلطان معالي الأمور وأكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذِكْره له على ممر الأيام، ويُخلّد في سُننه الحنيفية، ويجد نفعه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30]».
وها هو ذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ قد استقبله السلطان الناصر قلاوون في مجلسه بحفاوة بالغة، وعندما عرض على السلطان بعض الأموال للترخص في تنفيذ أحكام أهل الذمة، لم يمنعه ذلك من إنكار ذلك والمبالغة فيه. يقول ابن عبد الهادي: إن الوزير فخر الدين ابن الخليل «أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للديوان في كل سنة سبعمائة ألف درهم زيادة على الجالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلَّمة بالحمرة والصفرة والزرقة، وأن يعفوا من هذه العمائم المصبـغة كـلهـا بهـذه الألوان الـتي ألزمـهـم بـها ركن الدين الشـاشنـكير، فقـال السلطـان للقضاة ومن هناك: ما تقولون؟ فسكت الناس، فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا، جثا على ركبتيه وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، ويرد ما عرضه الوزير عنهم رداً عنيفاً، والسلطان يسكته بترفق وتؤدة وتوقير، فبالغ الشيخ في الكلام وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، حتى رجع السلطان عن ذلك وألزمهم بما هم عليه واستمروا على هذه الصفة؛ فهذه من حسنات الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله».
• الحسبة بين الإسرار والإعلان:
تختلف موضوعات الحسبة كما تختلف أحوال المُحتسَب عليهم؛ فقد تكون الحسبة في أمر معلوم حكمه، كما قد تكون في أمر يدخله الاجتهاد، وقد يكون المُحتسَب عليه ممن يقبل النصح وينتفع به، وقد يكون ممن لا يرعوي وتأخذه العزة بالإثم، ومن هنا يختلف الإسرار والإعلان بحسب ذلك ولا يجري فيه الأمر على منوال واحد. والأمر في الإسرار والإعلان يدور على المصلحة، فليس الإعلان دائماً مفسدة، وليس الإسرار دائماً مصلحة؛ كما أن الإعلان ليس دائماً مصلحة والإسرار ليس دائماً مفسدة؛ وذلك يقدره العلماء العاملون، وليس الأغمار.
فإذا كان موضوع الحسبة من الأمور المعلوم حكمها، أو كان المحتسَب عليه ممن لا يقبل النصح ولا يلقي له بالاً، أو كان الأمر المحتسَب فيه يتعلق بالعامة وليس بشخص المحتسب عليه؛ فقد يكون الإسرار في ذلك مفسدة تؤدي إلى شيوع المنكر بلا مدافعة ولا نكير، ويكون من المصلحة الإعلان بذلك لتقرير الحق وبيانه، وحتى يعلم الناس أن أهل العلم لا يداهنون ولاتهم، فلا يفقدون الثقة فيهم، وقد تحمل الوقائع التي أعلن المحتسب فيها حِسبته على ذلك الوضع.
وإذا كان موضوع الحسبة من الأمور التي يمكن أن يدخلها الاجتهاد أو كان المحتسب عليه ممن يقبل النصح وينتفع به، أو كان الأمر المحتسب فيه مسألة شخصية تتعلق بالمحتسب عليه ولا تتعلق بأمر العامة، فقد يكون في الإعلان بذلك مفسدة تؤدي إلى خلل واضطراب واجتراء الناس على ولاتهم، ويكون من المصلحة الإسرار بذلك، وقد تُحمَل الوقائع التي أسرَّ فيها أهل العلم على ذلك الوضع؛ فإن الهدف والغاية من الاحتساب هو جريان الأمور على وفق الشريعة ونظامها؛ فمتى أمكن حصول ذلك باليسير لم يكن من السنَّة اللجوء إلى العسير، ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي رواه عياض بن غنم يحمل على ذلك: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه»؛ فإن النصيحة قد تكون في الأمور المجتهَد فيها وليس فيها إنكار أكثر من بيان الصواب، بعكس الإنكار الذي من مراتبه اليد والزجر والنهر وغير ذلك، وعليه أيضاً يُحْمَل كلام أسامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما قيل له: «لو أتيتَ فلاناً ـ يعنون بذلك عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ فكلمته! قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؛ إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه»، وعثمان الخليفة يومئذ؛ فبين لهم أنه كلَّمه فيما أشاروا به لكن كما قال ابن حجر: «على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها» وذلك أن الأمور المتكلَّم فيها هي من قبيل الأمور الاجتهادية وليست من المنكرات، وعثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ خليفة راشد يقبل النصح والإشارة ممن جاء بها إذا تبين له فيها الصواب.


احتساب الأنبياء عليهم السلام
 نظرات في أساليب الأنبياء في أداء هذه الشعيرة
إبراهيم بن محمد الحقيل 

لما خلق الله ـ تعالى ـ البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2]، وقال ـ تعالى ـ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْـجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْـجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.
وفريق الجنة هم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون. وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفساد. ولذا كان أكثر الناس صلاحاً وإصلاحاً الرسل ـ عليهم السلام ـ؛ لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد، وقد قال الله ـ تعالى ـ عن الصالحين من آل إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ وهو يحتسب على قومه: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهم؛ قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسدات؛ وذلك حين ذكرهم الله ـ تعالى ـ مبيناً فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم (ذيَّل) ـ سبحانه ـ ذلك بقوله ـ عز وجل ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
• إنكار الرسل للمنكرات:
من قرأ القرآن بتدبُّر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيه؛ علم أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردّهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.
والموضوعات التي احتسب فيها الرسل ـ عليهم السلام ـ على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله ـ تعالى ـ ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم.
لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة.
لقد احتـسب الرسـل على أقوامهم في مسألة التوحـيد، وهي أعظـم مسألة وأجلّها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
وكان احتسابهم شاملاً لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهم؛ لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم ـ عليه السلام ـ على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وإنكار موسى ـ عليه السلام ـ على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله تعالى.
وتحمَّل هذان النبيان الكريمان ـ عليهما السلام ـ في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحمَّلا من الأذى في سبيل الله ـ تعالى ـ مما قصه الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز.
وأنكر موسى ـ عليه السلام ـ على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم: {أَتَقُولُونَ لِلْـحَقِّ لَـمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، وفي الآية الأخرى: {قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61].
فكان موسى ـ عليه السلام ـ قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويضلون الناس؛ لإرضاء البشر من دون الله تعالى.
كما كان ـ عليه السلام ـ قدوة صالحة لمن يفضحون الكُتَّاب والإعلاميين ومن يسمون بالمفكرين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!
وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!
وكم يفتـرى على المصـلحـين المحتسـبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل!
وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا ـ عليهم السلام ـ ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم.
ومـثال ذلك مـن سيرة نوح ـ عليه السلام ـ وهو يخاطـب ابـنه وقـد بـدت بـوادر العـذاب؛ لينـقـذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
واحتسب إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه فخصَّه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم: 41 - 46].
واحتسـب إسماعيل ـ عليه السلام ـ على أهل بـيته كما ذكر الله ـ تعالى ـ عنه ذلك بقوله ـ سبحانه ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[مريم: 54 - 55].
واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصي:
فنوح ـ عليه السلام ـ أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ أنكر على قومه اعتقادهم في النجـوم وفي أصـنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبيَّـن ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58]، ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِـمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67].
وهود ـ عليه السلام ـ احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
فبين لهم ـ عليه السلام ـ أن الله ـ تعالى ـ أقوى منهم، وحـذرهـم من مغبَّة عبثهم، وقال منكراً عليهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - صلى الله عليه وسلم -128- صلى الله عليه وسلم -) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
[الشعراء: 128 - 131]
واحتسب صالح ـ عليه السلام ـ على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْـجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ - صلى الله عليه وسلم -149- صلى الله عليه وسلم -) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
[الشعراء: 149 - 150]
كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْـمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151 - 152].
وأما قوم لوط ـ عليه السلام ـ فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالى؛ فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54 - 55].
وكان قوم لوط ـ عليه السلام ـ يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله ـ عليه السلام ـ: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْـمُنكَرَ}[العنكبوت: 28 - 29].
وأما شعيب ـ عليه السلام ـ فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
[الشعراء: 181 - 183]
كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36]، وفي الآية الأخرى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ}
[الأعراف: 86].
ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْـمُفْسِدِينَ}.
[الأعراف: 142]
• غضب الأنبياء من المنكرات:
ما أشد غضب الرسل ـ عليهم السلام ـ حين تنتهك حرمات الله تعالى، ويقع أقوامهم في المنكرات، يغضبون غـيرةً على ديـن الله ـ تعـالـى ـ ولا يغـضـبون لأنفـسـهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا! فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله تعالى، واشتد غضبهم له سبحانه.
ومن ذلك: أن الله ـ تعالى ـ لما أوحى إلى نوح ـ عليه السلام ـ أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك؛ غيرةً لله تعالى، وانتصاراً لدينه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]
ولم يـكن دعـاؤه علـيهم بالهـلاك انتـصـاراً لنفسه، أو انتقاماً منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علَّل دعاءه عليهم بقوله ـ عليه السلام ـ: {إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
ولما عاد موسى ـ عليه السلام ـ من ميقات ربه، وتكليمه إياه، وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالى؛ غضباً لله ـ تعالى ـ أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه: {وَلَـمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ} [الأعراف: 150].
هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس! فالله المستعان.
• أمر الرسل بالمعروف:
كما احتسب الرسل ـ عليهم السلام ـ على أقوامهم فنهوهم عن المنكرات والموبقات؛ فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله تعالى، ويوصل إلى جنته:
فأمـروهم بعـبادة الله ـ تعـالى ـ وحـده لا شريك له، وما من نبي منهم إلا قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، قال الله ـ تعالى ـ مخبراً عنهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
كما أمر الرسل أقوامهم بشكر الله ـ تعالى ـ على نعـمه، والإقـرار بفـضله، وإخـلاص الديـن له، فـهذا هود ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْـخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وقال صالح ـ عليه السلام ـ: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْـجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
وموسى ـ عليه السلام ـ فعل ذلك أيضاً فذكَّر بني إسـرائيل نِعَـم الله ـ تعالى ـ المتتابعة عليهم؛ من اصطفائهم على غيرهم، وإهلاك عدوهم، وأمرهم ـ عليه السلام ـ بشكر هذه النعم العظيمة، قال الله ـ تعالى ـ مخبراً عنه: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].
وفي آية أخرى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}
[إبراهيم: 6].
وأمر الرسل أقوامهم بالتوبة والاستغفار؛ فنوح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، وهود ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وصالح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [هود: 90].
• أعمار الأنبياء كلها احتساب:
قضى الرسل ـ عليهم السلام ـ أعمارهم كلها ـ منذ أن بعثهم الله تعالى، وأوحى إليهم إلى أن لقوه سبحانه ـ في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح ـ عليه السلام ـ محتسباً على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولما أهلك الله ـ تعالى ـ المكذبين مكث محتسباً على المؤمنين ما شاء الله تعالى.
فليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سـنتين ثـم كـفَّ عـن ذلك أن الرسل ـ عليهم السلام ـ ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.
ولقي الرسل ـ عليهم السلام ـ في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح ـ عليه السلام ـ سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ أُلقي في النار، ورُمـي هود ـ عليه السلام ـ بالجنون، واتهم موسى ـ عليه السلام ـ بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب ـ عليه السلام ـ أن يُرجم لولا منعة رهطه، وقُتل زكريا ويحيى ـ عليهما السلام ـ، وطُورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله ـ تعالى ـ في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.
ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسـل ـ عليـهم السلام ـ ليقـبلوا المسـاومة فـي دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم. وكان سليمان ابن داود ـ عليهما السلام ـ قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36 - 37].
• رفض الحسبة هو مسلك المشركين:
الرسل ـ عليهم السلام ـ جاؤوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]، وأخبر الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم قدَّموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104].
ومع ذلك؛ فإن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السـالفة أنـهـم ما رفـضوا تنـسُّك الأنـبـياء وتعـبُّـدهـم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية كان موجوداً عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.
إن الرسـل ـ عليـهم السـلام ـ ما نـزلوا من السماء، ولا جاؤوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم؛ ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله ـ تعالى ـ إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشـرك بالله ـ تعـالـى ـ شيـئاً فـقـد عصـمهم الله ـ تعالى ـ من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قُدِّر وقوعُ الشرك منهم لاحتجَّ به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبـدون معـنا؟ ولما احتـاج المشـركـون إلى إحـالتهم على ما كان يعبد الآباء.
إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك.
بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك: قول قوم صالح ـ عليه السلام ـ: {يَا صَالِـحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].
فهذه تزكية منهم لصالح ـ عليه السلام ـ، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.
ونبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحكي سيرته الخـالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله ـ تعالى ـ في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ محلَّ إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقَّبوه بالأمين.
وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ، ومنهم من تنصَّر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.
كل هـذا يدل على أن أكـثر المشركـين كانوا يتحـلَّون بما يسـمى في هـذا العصـر بالحـرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية، وما نقموا على من يوحد الله ـ تعالى ـ أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم.
كما يدل على أن الذي نقمه أكثر المشركين من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله ـ عليهم السلام ـ أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب ـ عليه السلام ـ له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].
فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله ـ تعالى ـ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
ولذا؛ فإن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ هو دين الله ـ تعالى ـ الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل. وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو متشبهون بهم، أرادوا ذلك أو لم يريدوه.
• المحتسبون هم أنصح الناس للناس:
أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس غير.
قال نوح ـ عليه السلام ـ وهو يدعو قومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62]، وقال هود ـ عليه السلام ـ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68]، وقال صالح ـ عليه السلام ـ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}
[الأعراف: 93].
وأغشُّ الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويحبون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء. وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم السلام ـ إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.
والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسـبة تدخـل فـيما لا يعـني، فما أضـعـف عقـولهم! وما أشد ضلالهم وانحرافهم! إذ كيف تكون الحسبة تدخلاً فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!
والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.
وتلك الحجة السمجة التافهة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل ـ عليهم السلام ـ يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له: {يَا شُعَيْبُ أَصَـلاتُـكَ تَـأْمُرُكَ أَن نَّتْــرُكَ مَا يَعْـبُـدُ آبَـاؤُنَـا أَوْ أَن نَّفْعَـلَ فِي أَمْـوَالِـنَـا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].
أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟
والمفسدون في هذا العصر يكـررون تلك المقولة (بهذه الصورة) أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشـاؤون دون قـيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!
إنها الحجة نفسها التي احتج بها الأقدمون فكانت سبباً في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.
إن من نظر في سير الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاصٍ متنوعة، وإن كان الشرك موجوداً في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.
وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضـارة المعـاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنـكرات المجـتمعة؛ رفـعاً للعـذاب، وإصـلاحـاً للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذن بجميعها؟!
ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله ـ تعالى ـ منكراً له، ومحتسباً على قومه فيه:
فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام ـ على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفراداً أو دولاً.
ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح ـ عليهما السلام ـ مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.
ومَثَّلَ احتساب لوط ـ عليه السلام ـ مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.
ومَثَّلَ احتساب شعيب ـ عليه السلام ـ مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.
كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب ـ عليهما السلام ـ مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.
فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم، وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل؛ فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً.
ومن اختار مجالاً من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك؛ فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.
ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيراً كثيراً، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.
وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجـني، والافـتراء والتشفي من أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!
ومن روج الشائعات على أهل الحسبة فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يعصمنا من الضلال والهوى.


 الاحتساب على أهل الأهواء
د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف 

«يا بني، إنْ صار لك هذا الأمر فتَجرّد لهذه العصابة [يعني طائفة من الزنادقة] فإنها فرقة تدعو إلى ظاهر حسن، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين، أحدهما: النور، والآخر: الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات! فارفع فيها الخشب، وجرِّد فيها السيف، وتقرّب بأمرها إلى الله لا شريك له».
هكذا أوصى الخليفة العباسي المهدي (ت: 127هـ) ابنه موسى (الهادي). ولا غرو أن يوصي بذلك؛ فقد أهمّه أمر الزنادقة؛ فجدّ في طلبهم، وتتبعهم في سائر الآفاق، واستحضرهم، وقتلهم صبراً بين يديه.
ورحـم الله أبا الحسن الندوي إذ ألّف رسالة وجيزة بعنـوان: «ردة ولا أبـا بكــر لـها»، وإن تعـذّر وجـود أمـثال الصـديـق الأكـبـر ـ رضـي الله عـنـه ـ والذي حارب المرتـديـن؛ فالصحابة ـ رضـي الله عنهم ـ لا كان ولا يكون مثلهم، لا سيما الصدّيق الأكبر؛ فلن تعجز الأمة أن تهيئ من يكون كالخـليفة المهدي، خصوصاً في هذا العصر الحافل بأنواع البدع والزندقة؛ فلا يبلغ بنا الضعف أن يقال: زندقة ولا مهدي لها!
إن غياب الولاية الشرعية في أغلب الأمصار، وإقصاء شرع الله عن مجالات الحياة، إن ذلك سبب ظاهر في استفحال وتطاول أهل البدع والأهواء، ومع ذلك فلا تزال شعيرة الاحتساب ميداناً رحباً ومجالاً خصباً لمن أراد الإصلاح والتغيير، ولن تخلو هذه الأمة المرحومة من أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض.
وللاحتساب على أهل الأهواء والبدع صور شتى، ومـواقـف متـعددة؛ فـقـد يكون الاحتساب عليهم من خلال بيـان حكم الله فيـهم، أو هـجرهم وترك الصلاة خلفهم، أو مناظرتهم ومجادلتهم بالحسنى، أو دعوتهم واستصلاحهم، أو هتك أستارهم، ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه.
وممـا يجـدر التنـبيه علـيه أن يُضبط هذا الوصف (أهل البدع والأهواء)؛ فمن خالف أهل السنة في أمر كلّيّ في الدين، أو نقض قاعدة من قواعد الشريعة فهو من أهل البدع والأهواء، كما حرر ذلك الشاطبي بقوله: «هذه الفِرق؛ إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلّيٍّ في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزءٍ من الجزئيات؛ إذ الجزء والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية.
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات؛ فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة».
كما أن اتخاذ موقف من أهل الأهواء تكتنفه عدة أمور معتبرة، منها: النظر إلى المصلحة الشرعية الراجحة في ذاك الموقف، ومراعاة الأحوال الزمانية والمكانية، ومدى قـوة أهـل السـنة وضعفهم، وكذا حال أهل البدع ظهوراً أو خفاءً، وتفاوت مراتب البدع.
وقد بيّن شيخ الإسسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ذلك من خلال مسألة هجر المبتدع فقال: «وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة؛ بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته؛ كان مشروعاً. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف؛ بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته؛ لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعـض النـاس أنفـع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التـأليف، ولهـذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألّف قوماً ويهجر آخرين.
كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرّق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيّع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصلَ الطرق إليه».
ومن مجالات الاحتساب على أهل الأهواء: دعوتهم ومناصحـتهم واستصـلاحـهـم؛ فـمن تلبّـس بشـيء من تلك الأهـواء فيُسـعى إلى دعـوته إلى السُنّة واتّباع الدليل. وها هو يزيد الفقير ـ أحد التابعين ـ يعتريه شغف بمذهب الخـوارج؛ فيـلقاه الصحابي الجليـل جابـر بـن عـبـد الله ـ رضي الله عنهما ـ فيحدِّث بحديث الجهنّميين؛ فتزول الشبهة عن يزيد ويلزم السُنّة.
وذاك يوسف بن إسباط كان أبوه قدرياً، وأخواله روافض؛ فأنقذه الله بسفيان الثوري.
وهذا موسى بن حزام كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله ـ تعالى ـ بأحمد بن حنبل؛ فانتحل السنة وذبّ عنها، وقمع من خالفها حتى مات.
وقد دعا شيخُ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ طوائف من الاتحادية، وبيّن لهم فساد مذهبهم؛ فتركوا تلك الضلالات وصاروا دعاة للسنة والاتّباع.
فهـلاّ نَفَـرَ طائـفة مـن الدعاة وتخصصوا في دعوة أهـل البـدع؛ فـتعـرّفوا أحوالهم، وسبروا واقعهم، وسلـكوا السـبل الملائـمة في دعوتهم وإنقاذهم من لجج البدع والمحـدثات؛ إذ إن اهتمامات كثير من العلماء والدعـاة والحـركات الإسـلامـية متجهة إلى دعوة المنتسبين إلى السُـنّة، أو دعوة الكـفـار إلى الإسـلام، وأما مـا بـين ذلك ـ من دعوة المبتدعة ـ فلا يزال محل قصور وتقصير.
ومن مجالات الاحتساب على أهواء الأهواء: إقامة المنـاظرات معهم؛ إذ لا يخفى أهمية المناظرات ومشـروعيتها إذا احتـيج إليـها.
يقـول شـيـخ الإسـلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
«وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى». وعظّم ـ رحمه الله ـ شأن مناظرة المخالفين ودحض شبهاتهم فقال:
«كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس».
وقد ناظر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الخوارج فرجع الكثير منهم.
وناظر عمر بن عبد العزيز غيلان القدري حتى انقطع.
وناظـر الإمـام أحمـد بن حنبل القائلين بخلق القرآن، كما ناظر أحمد من أراد الخروج على الخليفة الواثق.
وتاريخ الإسلام حافل بأنواع المناظرات لأهل البدع.
إن الانفتاح الإعلامي الهائل في هذا العصر، واستفحال المقالات البدعية عبر وسائل الإعلام المتنوعة، وظهور حكومات ومؤسسات مختلفة تتبنى البدع و«تؤصلها» وتبثها؛ إن ذلك ليستدعي الاهتمام الجاد والعملي بشأن المناظرات مع المبتدعة، وتحديد ضوابط المناظرات المشروعة وشروطها، وأن تنشأ مؤسسات ومعاهد تهدف إلى تدريب وإعداد متخصصين في باب المناظرات؛ بحيث يكونون مؤهلين للمناظرات من جهة رسوخ العلم الشرعي، وقوة الحجة، وسرعة البديهة، والدراية بحال المخالفين ومآخذهم، وقبل ذلك حسن القصـد وصـلاح النـية؛ فليس كل طـالـب علـم أو داعية أهلاً للمناظرة. كما لا يُناظر من هبّ ودبّ من أهل البدع؛ إذ إن مناظرة المغمورين منهم سبب في ظهور البدع وبروزها، وعلى هذا يحمل ما قاله اللألكائي: «فما جُني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة. ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً».
ومن مجالات الاحتساب: فضح أهل البدع المكفّرة وكشف مخططاتهم، وهتك أستارهم، ونشر أسرارهم ومكايدهم، وبيان عمالتهم لأعداء الإسلام، كما في موقف السلف الصالح ـ وكذا سائر أهل الإسلام ـ تجاه العبيديين الباطنيين وأشباههم من الروافض.
نسأل الله أن يعزَّ دينه ويعلي كلمته، وبالله التوفيق. 

 الاحتساب ودوره في التغيير
 د. سامي محمد صالح الدلال

• المحتسب والمتطوع:
بحسب الاصطلاح فإن المحتسب هو الذي يعيَّن من قبل الدولة ليقوم بوظـيفة الاحتساب، وأما المتطوع فهو الذي يقـوم بذلك طـواعـية من نفـسه دون تكليف ولا تعيين من قبل الدولة. وانبنى على ذلك اختلافهما من وجوه، ذكر كل من الماوردي والفـراء منـها تسعة فروق، منها على سبيل المثال لا الحصر:
الأول: أن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية وفرضه على غيره من فروض الكفاية.
الثاني: المحتسب وظيفته الاحتساب لا يجوز تشاغله عنه، وأما المتطوع فالاحتساب من نوافل عمله يجوز له التشاغل عنه بغيره.
الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوباً للاستعداء.
الرابع: أن على المحتسب إجابة من استعداه، وليس على المتطوع إجابته.
الخامس: أن عليه البحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
ولمن يـريـد المـزيـد فعلـيه الرجـوع إلـى كتــابَيْ الأحكام السلطانية للفراء، والكتاب الآخر بالعنوان نفسه لأبي يعلى.
• طبيعة الدولة الإسلامية:
إن مهمة الدولة الإسلامية هي إقامة شرع الله والأخذ بـيد العباد للاحتكام إليه في جميع شؤون حياتهم على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والقضائية والتعلـيمية والاجتماعية والإعلامية والإدارية وغيرها. وينـاط قـياد ذلك كـله بالحاكم المسلم الذي هو رأس الدولة. قال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49]. وقال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وهذا مقتضى تحقيق العبودية الخالصة لله رب العالمين. قال ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. قال ابن تيمية: «أصل ذلك أن تعْلمَ أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمـة الله هـي العلـيا»[1]، وقال أيضـاً: «لهـذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله ـ تعالى ـ»[2].
وبما أن الحاكم تنتابه العوارض البشرية كغيره من البشر، وكـذلك الذيـن يعيـنـهـم على رؤوس الــوزارات والإدارات، فإن الخلل في انتظام الدولة على المنهج الديني الإسلامي الرباني الإلهي وارد في كل وقت، وعندها يصبح الاحتساب في كل ما ذكرت واجباً على من يستطيعه بشروطه؛ لأجل أن يستقيم المعوج وينصلح الفاسد. قال السيد جلال الدين العمري: «والدولة الإسلامية دولة دينية خالصة، فيجب على صاحبها أن يكون رجلاً ورعاً تقياً عدلاً متبعاً للمعروفات ومجتنباً المنكرات، ولكنه مع ذلك كآحاد الناس يخطئ ويصيب، وقد يترك المعروف ويرتكب المنكر، فماذا ينبغي للشعب المسلم أن يفعل إذا ترك الحاكم المعروف وأخذ في ارتكاب المنكر»[3].
وقد ذكر ابن تيمية مفهوماً موسعاً لأولي الأمر. فبعد أن ذكر قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] قال: «وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ للأحمسة لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنـه مـن أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حين تولى أمر المسلمين وخطبهم فقال في خطبته: أيها الناس، القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخـذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم»[4].
• أركان الحسبة:
هي ثلاثة:
الركــن الأول: المحـتــسـب، وهـو الـذي نصــبه الإمـام أو نائبه، أو من تحققت فيه شروط المحتسب، فاحتسب وفق قواعد الشرع، للنظر في أحوال الرعية وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، متحلياً بالإخلاص متقيداً بالصواب. ومن شروطه: الإسلام والبلوغ والعقل والعلم والعدالة والقدرة والذكورة عند بعض العلماء، ويجوز للمرأة الاحتساب بين النساء. وإذا كان المحتسب معيَّناً من جهة الدولة فهي متكفلة براتبه. وينبغي للمحتسب أن يكون في مقام القدوة لغيره من حيث أدبه وحسن خلقه وتدينه وورعه وجرأته في الحق. وإذا اختلَّت فيه صفة من الصفات التي ينبغي التحلي بها مما هو خارم للمروءة، عزله الحاكم وأقام غيره مكانه.
الركن الثاني: المحتسب فيه، وهو المنكر، المعلوم من الشرع أنه منكر، وذلك إذا ظهر فعله، من مثل إقامة القـبب أو الـنذر للقـبـور أو السـفور أو التعـامـل بالـربـا أو الدعـوة إلى العَلْـمانـية فـي وسـائـل الإعـلام وغـيرها أو الإغــراء بالفــساد أو التشـبه بـين الرجـال والنـسـاء أو التحاكم في الدماء والأعراض والأموال إلى غير ما أنزل الله ـ تعالى ـ، وسوى ذلك من المنكرات الكثيرة المنتشرة في مجتمعاتنا. وضابطه: أن يكون مما حرمه الشرع وأن يكون موجوداً في الحال، ظاهراً في العلن أو بغلبة الظن ومـن غير تجسس. وما ذكرناه من أمثلة فإنها شاملة لإنكـار المنكر بأقسامه الثلاثة المتعلقة بحق الله ـ تعالى ـ أو الآدميين أو المشترك بين الحقين. وكذلك تكون الحسبة في المعروف إذا ترك فعله مما أمرنا الله ـ تعالى ـ بأدائه والقيام بـه على سبيل الوجوب أو الاستحباب، وأقسامه ثلاثـة؛ أحـدها: يتـعلق بحـقوق الله ـ تعالى ـ، والثاني: ما يتعـلق بحقـوق الآدمـيـين، والـثالـث: ما هو مشترك بينهما[5]. ومن أمثلته في القسم الأول: صلاة الجمعة وصلوات الجماعة وصلاة العيد[6]. وفي القسم الثاني: إعـانة ذوي الكوارث إذا حصـل زلزال أو مـجـاعة أو تشرد، وفي القسم الثالث: رعاية اليتامى وإعلاف البهائم وإرجاع الضوال إلى أصحابها.
الركن الثالث: المحتـسب عليه، وهو الذي يوجه له القـول أو الفعـل ليـأتمر بالمعروف أو لينتهي عن المنكر. وهو شامل لأصناف كثيرة، منها: الاحتساب على الوالدين، والاحتساب على أهل الذمة، والاحتساب على المشايخ، والاحتساب على الحكام إذا حكموا بغير شريعة الله ـ تعـالى ـ أو اضـطهـدوا الدعـاة إلـى الله ـ تعـالى ـ أو تغاضوا عن المنكر في وسائل إعلامهـم أو زاولـوه في أفـعالهـم، ويشـمل أيـضاً مـا هـو داخل في مفـهوم الإصـلاح الديـني والخـلقي للـناس، ومراقبـة ما لا يدخل في اختصاصات القضاء وما هو مستعلن به من المنكر في المرافق العامة.
• التدرج في الحسبة:
مـا يقصـده المحتــسب هـو إزالـة المـنكر الظـاهـر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فـإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[7]. ولكن ليصل إلى هذه النتيجة المباركة هناك درجات عليه أن يتبعها ليصل إلى غايته، ومنها:
1 ـ العلم بحصول المنكر بدون تجسس.
2 ـ إعلام من وقع منه المنكر بأن فعله منهي عنه في الشرع، إذ ربما كان يفعله جاهلاً.
3 ـ وعظه ونصحه وتذكيره بلطف.
4 ـ فإن لم يرتدع تدرج في التعنيف عليه بالقول مع بعض الغلظة.
5 ـ فإن أصرَّ غيَّر منكره باليد؛ كإراقته الخمر.
6 ـ فإن استمر على منكره هدده بإيقاع الأذى عليه.
7 ـ فإن لم يقلع عن منكره أوقع عليه العقوبة بالنكال والضرب.
8 ـ فإن لم يقدر عليه رفع الأمر إلى الحاكم أو من ينوب عليه فيرسل له أعواناً فيأخذونه، ويعرض على القاضي لينال جزاء فعله[8].
وللحسـبة لإزالة المنـكر حالات متعددة ذكرها ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ، وهي:
1 ـ أن يزول المنكر ويخلفه ضده.
2 ـ أن يقلّ وإن لـم يـزل بجملته.
3 ـ أن يخلفه ما هـو مثله.
4 ـ أن يخلفه ما هـو شـر منـه. قال: «فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة»[9].
• موقـف المـتـطـوع بالحسـبة إن خـشـي على نفسه:
إن خشي المتطوع بالحسبة على نفسه ففيه تفصيل، فقد جاء في الأثر أن إسحاق ابن إبراهيم قال لأبي عبد الله: متى يجب علي الأمـر؟ قال: إذا لم تخف سيفه ولا عصاه[10].
وجاء ـ أيضاً ـ أن محمد بن عبدالله قال لشعيب بن حرب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لولا السيف والسيوط وأشباه هذا لأمرنا ونهينا، فإن قويت فَأْمرْ وانهَ[11]. وفي ذلك تفاصيل لا يتسع لها المقام.
• الاحتساب والسياسة:
أولاً: الفكر السياسي الاحتسابي: إن مستواه يعتمد على مدى «النضج» في المزاوجة بين استيعاب العلوم الشرعية وبين متابعة الأحداث وفهم أسبابها وسبر أغوار ودوافع القائمين بها. وينبني على ذلك وضع برامج سياسية احتسابية متدرجة تتضمن ما ينبغي أن يكون عليه الفكر السياسي الاحتسابي لكل مرحلة من مراحل الاحتساب. وبناء عليه؛ فإن رافعي لواء هذا الاحتساب ينبغي أن تتجلى فيهم أعمق درجات النضج السياسي.
ثانياً: مكونات وحركة الفكر السياسي الاحتسابي:
أشير فيه إلى ثلاثة مكونات رئيسة:
1 ـ تشخيص أركان الصراع، وذلك مهم لمعرفة اتجاهات أسهـم الاحتسـاب، فالـصراع بيـن البشـر سـنّة جـاريـة. قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119]. وأركان الصراع اليوم هم أربعة: المسلمون، اليهود، النصارى، والمشركون. ويشمل الفكر السياسي الاحتسابي الحديث عن هؤلاء جميـعاً، كل بحسـبه، وذلك مـن حيـث تـأثيرهم على ما يتعلق بالإسلام والمسلمين.
2 ـ المنطلقات، لا بد أن ينحصر الفكر السياسي الاحتسابي في منطلقاته بمرجعية الكتاب والسنة وفق مفهوم السلف رضي الله عنهم، ووفق هذا الإطار يتحرك الفكر السياسي الاحتسابي ضمن محددات القواعد الشرعية.
3 ـ مساحة الحركة: بعد تنوع وشمولية وسائل الإعلام فإن مساحة حركة الفكر السياسي الاحتسابي قـد أصبحت عالمية، مما عقد العملية السياسية المنبثقة منها، ووسع إطار توظيف المصالح المرسلة.
ثالثاً: عوامل الاستقراء للممارسة السياسية الاحتسابية:
يعتمد الاستقراء السياسي الاحتسابي على عدة عوامل، من أهمها:
1 ـ توفر الاختصاص ـ إلى مستوى الخبرة ـ في من يناط بهم إعداد الاستقراءات السياسية.
2 ـ معرفة الواقع بشكل دقيق ويعتمد على الإحصاءات والاستبانات الموثقة والمعلومات الصحيحة.
3 ـ العلم بالتاريخ والسنن الربانية، وخاصة في الموضوع المحتسب فيه، وليس مجرد الثقافة العامة، بل إضافة إلى ذلك التحليل واستخلاص الدروس والعبر.
4 ـ ملاحظة ما يتميز به العصر الحاضر من مؤثرات حقيقية في حركة الواقع، ومن أهمها: ثورة المعلومات، واستفراد الولايات المتحدة بموقع الصدارة العالمي على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، والتشكلات الجديدة للقوة العالمية والمحاور الدولية، وتوظيف الفضاء في الشؤون العسكرية والإعلامية والمعلوماتية.
إن الذين سيتحركون للاحتساب السياسي بناء على تلك النتائج الاستقرائية لا بد أن يتوفر لديهم الإلمام بالمهام التي انتدبوا أنفسهم إليها لأجل الاحتساب.
رابعاً: الوعي السياسي الاحتسابي:
إن الاحتساب السياسي بغية تغيير الواقع يتطلب الوعي بمفرداته ومكوناته وتداخلاته وصراعاته، أي: الوعي بمحاور حركة المجتمع، ويدخل في ذلك الإلمام بالاختلافات السياسية ومستلزمات العمل السياسي وضوابطه والتدرج في مراحله والمشاركة في نسيجه.
• الاحتساب باستعمال القوة:
هـو باب خطير، لا يجوز أن يخوض في خضمِّ بحاره ويسبح في لججه إلا العلماء العاملون، ممن آتاهم الله فهم النصوص والعلم بالواقع، بسبب ما يغشاه من تضارب المصالح والمفاسد. إن الأصل في الإسلام عدم جواز الخـروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بحكم الشريعة، ولا يجوز تأليب العامة عليه لكونه قد قصر في بعض الجوانب أو أنه مارس الظلم استغلالاً لسلطته، ولا يجوز ممارسة ما يمكن أن يؤدي إلى الفتنة والاختلاف، وهذا هو ما عليه أهل السنة والجماعة. وورد من روايـة حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قوله عليه الصلاة والسلام: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهـداي، ولا يستنّون بسنتي، وسـيقوم فيهـم رجـال قلوبهم قلوب الشياطـين في جثمان إنس، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»[12].
غير أن هذا الإطلاق قيد بشروط، منها:
1 ـ أن يحكم الحاكم بكتاب الله ـ تعالى ـ؛ لحديث: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا»[13].
2 ـ أن يكون مصلياً؛ لما جاء في حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما صلّوا»[14]. وفي رواية عن عوف بن مالك: «.. قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة»[15].
3 ـ أن يكون حكمه قائماً على المعروف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية علي ـ رضي الله عنه ـ: «إنما الطاعة في المعروف»[16].
4 ـ ألا يأمر بمعـصـية؛ لقــوله - صلى الله عليه وسلم - فـي روايـة ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[17].
5 ـ ألا يأتي كفراً بواحاً عليه من الله برهان؛ لما جاء في حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: «دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»[18].
فهذه الشروط الخمسة قيدت الإطلاقات الواردة في أحاديث أخرى. قال النووي: «فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية»[19]. فالحاكم الذي يحكم بكتاب الله ـ تعـالـى ـ وكان مصلـ ياً وليـس آمراً بمعـصـيـة ولا مؤتياً كفراً بواحاً فيه من الله برهان لا يجوز الاحتساب عليه بالخروج عليه بحال من الأحوال، ولكن غاية الأمر المناصحة له وإحفافه بالبطانة الصالحة الراشدة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه تميم الداري: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»[20]. وأن لا يشهر به باسم النصيحة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له»[21].
قال الإمام النووي: «وأجمع أهل السنة أن لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضاً؛ فغلط من قائله، مخالف للإجماع، قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه»[22].
والخروج على هؤلاء هو مذهب الخوارج.
وأما الحاكم الذي ينحي شريعة الله ـ تعالى ـ عن الحكم بين الناس ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويحارب العلماء والدعاة وطلبة العلم ويأمر بسفور المرأة ويمنع الحجاب ويشيع الفساد في الأرض ولا يستمع للنصح والناصحين ويرفض التوجيه والموجهين، ويستظل في الوقت نفسه بالدساتير البشرية والأحكام والقوانين الوضعية ويلبس أمره على الناس باسم الديمقراطية فهذا ينظر علماء الأمة في الاحتساب عليه بالقوة من حيث تدافع المصالح والمفاسد وذلك بعد أن يتحقق علماء الأمة العاملين من كفره ويتفقوا على ذلك. قال ابن كثير بعد أن علّق على سياسة التتار: «وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا ـ أي: الياسق، وهو مثل ما عليه الدساتير البشرية الآن ـ وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وقال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]»[23]، وقال أيضاً عمن تحاكم إلى الـياسـق: «مـن فـعـل ذلك فـهو كـافـر يجـب قــتالـه حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في كثير ولا قليل»[24]. وقال ابن تيمية في ردِّه على سـؤال حول ما يقوم به التتار الذين حكموا المسلمين بقوة القهـر والغلبة: «فأيما طائفة امتنعت مـن بعـض الصلوات المفـروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنى والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة ـ عند من لا يقول بوجوبها ـ ونحو ذلك من الشعائر، هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟
فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها»[25].
وقـال القـاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامـة لا تنعقـد لكافر، وعلـى أنـه لو طـرأ علـيه الكفـر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها، وكذلك عند جمهورهم البدعة، وقال بعض البصريين: تنعقد له وتستدام له لأنه متأول، قال القـاضي: فلو طـرأ عليـه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفرّ بدينه»[26].
والنقولات في هذا المعنى من مشاهير علماء المسلمين كثيـرة[27]، غير أن إسقاط هذا الكلام على مسرح الواقع في عصرنا الآن له محاذير كثيرة، فإن الخروج على أي حاكـم له شـروط لا بـد مـن استـيفائـها، كما أن له موانع لا بد من دفعها، مع ملاحظـة أن جهاد الكـفار مــن صليبـيـين ويهود ـ كمـا في فلسطين وغـيـرها مـن الأقـطار الإسلامية المحتلة ـ لا يدخل بأي حال في مفهوم الخروج، إذ إن حكام تلك الدول قد نصبهم الاحتلال العسكري الأجنبي ليكونوا له عوناً ونصيراً على بقائه محتلاً لتلك البلاد.
والذين لا يرون جواز الخروج على الحكام، حتى وإن كان قد ثبت كفر نظامهم؛ فإنهم يستظلون بأسباب، من أهمها:
1 ـ لا توجد هيئة فتوى على مستوى العالم الإسلامي من العلماء العاملين المستبصرين معتمدة من الأمة يرجع إليها في الإفتاء على جواز الخروج على حاكم ما.
2 ـ أن كثيراً من الجماعات أو المجموعات الإسلامية التي تدعو إلى الخروج على الحكام لا يعرف لها علماء على مستوى الإفتاء بمثل هذا الأمر الجلل، بل يرأسهم بعض طلبة العلم أو الدعاة المتحمسين.
3 ـ أن كثيـراً من أنواع الحكم القائمة حالياً لا ترتبط بالحاكم بشخصه، بل بهيئة حكم أو نظام حكم (برلمان وحكومة ومؤسسات عسكرية وأمنية)، والحكم شرعاً على النظام الحاكم بمجموعه شيء، والحكم على أشخاصه بأعيانهم شيء آخر مستقل وقائم بذاته.
4 ـ إن الخروج على النظام الحاكم بالقوة هو ضرب من المجازفات الخطيرة، وقد أثبت الواقع أن جميع الذين خرجوا على أنظمتهم الحاكمة بقوة السلاح قد ارتد الأمر عليهم بالقمع والقهر والتصفية الجسدية أو السجن المصحوب بألوان التعذيب والتنكيل.
5 ـ لقد أثبت الواقع أن الخروج بالقوة على الأنظمة الحاكمة يؤدي إلى تقهقر العمل الإسلامي بسبب ما يتبع ذلك من مطاردة للدعاة ومحاربة للمؤسسات الدعوية والإسلامية، رغم أنها لم تشارك في ذلك العمل.
6 ـ أن الخروج على النظام الحاكم بالقوة يؤدي إلى الفتنة والهرج، كما أنه يؤدي إلى استفحال الخلافات بين الإسلاميين أنفسهم، وتنجم عنه أضرار مباشرة وغير مباشرة تنـزل بساحة كثيـر مـن المسلمين العـاديين الذين لم يشاركوا في هـذا العمل، وقد يقتل عدد من الأبرياء بغير جريرة ولا ذنب، وقد تتعدى الآثار السلبية لهذا العمل إلى البلاد الإسلامية الأخرى.
7 ـ اختلاط المصطلحات، فبعض الإسلاميين يسمون استعمال الحسبة بالقوة جهاداً، وليست هذه تسمية شرعية، بل يسمى خروجاً بحسب ما اصطلح عليه العلماء، ولذلك فإن تسميته جهاداً يورث اللبس في أذهان المسلمين، ومعلوم أن الجهاد له أحكام خاصة به، والخروج على الحاكم له أحكام خاصة به.
8 ـ لقد أثبت الواقع أن ما تحققه الدعوة الإسلامية من إنجازات دعوية في ظل الوضع السلمي هو المؤثر الإيجابي الحقيقي في مسيرة التغيير، وأن أساليب الخروج بالقوة على الأنظمة الحاكمة هي المؤثر السلبي في تلك المسيرة، والكلام مع الحاكم بالنصيحة هو أفضل الجهاد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر (أو) أمير جائر»[28].
• أعذار سقوط الحسبة:
إن بعض من يجب عليه القيام بالحسبة يتركها متعللاً بالخوف من الفتنة، وهذا غير مقبول منه على سبيل الإطلاق. قال ابن تيمية: «ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتـنة صار فـي الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة»[29]. ولكن قد تكون هناك أعذار حقيقية، بوجودها يسقط الشرع واجب القيام بالحسبة، منها:
1 ـ أن يغلب على ظنه أن يقع عليه من البلاء بسبب قـيامـه بالحسـبة ما لا يستـطيع تحمّله. قال ـ تعالى ـ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} [البقرة: 286]، وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفـسـه. قالوا: وكيـف يذل نفسـه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه»[30]. لكن مجرد اللوم له لا يسقط عنه الحسبة. قال العلامة القرطبي: «أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحق بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره»[31].
2 ـ أن تعمَّ البلـوى بنقـض العـهود وإضـاعة الأمانات، مما هو مؤشر على الفساد العام للذمم وتوجه القلوب نحو اتباع الهوى وانطواء النفوس على الحرص على الدنيا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا، وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فـداك؟ قال: إلزم بيـتك، واملك علـيك لسـانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة»[32].
3 ـ العجز الجسدي؛ لقوله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْـمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، فهؤلاء يسقط عنهم الجهاد للعجز، وكذا تسقطـ عـنـهم الحـسبـة، كل بحسب ما فيه من العـجز مما تحتاجه الحسبة من الحواس. ومن كان مقطوع اليدين سقط عنه الإنكار باليد، ومن كان أبكم سقط عنه الإنكار باللسان، ويبقى الإنكار بالقلب متعيناً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»[33].
4 ـ الجهل بالحكم الشرعي؛ فمن كان جاهلاً بالحكم الشرعي فلا يحتسب فيما ليس له به علم. قال الإمام النووي: «ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء؛ فإن كان من الواجبات الظاهـرة والمحـرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها؛ فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد؛ لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء»[34].
5 ـ إذا خشي حـدوث مفسدة أكبـر من المنكـر المحتسب فيـه. قال العلامة سـعد الدين التفتزاني: «انتقاء مضرة ومفسدة أكثر من ذلك المنكر أو مثله»[35]. قال ابن القيم: «سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه ـ يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم»[36]. وقال أيضاً: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم مـن عدم الفـقه والبصيرة إلا إذا نقلتـهم مـنـه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك»[37].
6 ـ أن لا يسبب الضرر لغيره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه عبادة بن الصامت وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ: «لا ضرر ولا ضرار»[38]. قال الغزالي: «فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصـحابه أو أقاربـه أو رفـقائه فلا تجـوز له الحسبة، بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر، إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخـر، وليس ذلك مـن القدرة في شيء، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر، ولكن كان ذلك سبباً لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإنكار على الأظهر»[39].
• ما يترتب على ترك الحسبة:
الحسبة هي دفق النبض في قلب المجتمع، فإن طرأ عليها الخلل طرأ على المجتمع خلل بقدر ذلك، وإن توقفت مات المجتمع. ويمكننا رصد ما ينجم عن ترك الحسبة على النحو التالي:
1 ـ انتشار الفساد الأخلاقي وفشو الفواحش وتقطع الأرحام. قال ـ تعالى ـ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]. فإن لم تقمع الفواحش بالحسبة عمت وطمت.
2 ـ تضييع إقامة الشعائر، وخاصة شعيرة صلاة الجماعة، وقد كثر ذلك في زمننا المعاصر حيث ازداد المنافقون والمعرضون عن الدين والمشككون في شعائره.
3 ـ عدم الالتزام بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، والأخذ بالقوانين البشرية الوضعية، وتمادي كثير من الحكام في السير في هذا المسلك، ولو أخذت الحسبة حقها في الأمر والنهي لما حصل ذلك. قال ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
4 ـ انعزال الدين عن حياة الناس واغترابه بينهم. وقد جاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند مسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء»[40].
5 ـ انتشار الجهل في المجتمعات المسلمة، فإن الاحتـساب ينتشـلهم من حـمأة ذلك، فإن توقف سقطوا في براثنـه وانصـادوا في شـباكه، وصـار حالهم كما قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْـحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]. وكما قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20].
6 ـ جرأة العصاة على أهل الحق من العلماء وطلبة العلم؛ لأمنهم العقوبة، ولغياب من يردعهم عن ذلك من المحتسـبين. وقد كان العصـاة من قبل يخشون أولي الحسبة أيما خشية إذ كانوا {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4].
7 ـ اعتياد المسلمين على فشو المنكرات والمعاصي بينهم مما يخفف أثـرها في نفوسهم فلا ينكرونها، ويصبح حالهم كحال بني إسرائيل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].
8 ـ تفاقم انتشار البدع، بأنواعها وأشكالها، ذلك أن المبتدعـة يخشون أهـل الحسـبة ويخافون سطوتهم عليهم، إذ أشد ما يرهبـون منـه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مـن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[41].
9 ـ دخول الفساد على الصالحين لتفريطهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ذكر الله ـ تعالى ـ مثالاً بليـغاً في قصـة الذي آتاه آياته ثم انسلخ منها. قال ـ عز وجل ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ - صلى الله عليه وسلم -175- صلى الله عليه وسلم -) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}.. الآية [الأعراف: 175 - 176].
قال ابـن الجوزي: وهـذه الآية مـن أشـد الآيات على أهـل العلم إذا مالوا عـن العلم إلى الهوى[42].
وقال ـ تعالى ـ: {وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 62 - 63]. فالله ـ تعالى ـ «ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد»[43]. وقال ابن جرير: «كان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها»[44].
10 ـ تداعي الأمم على الإسلام، وهذا ما هو واقع في الأمة الآن، فإن قلة القائمين بأمر تذكير الناس ووعظهم وأمـرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر جعلهم ينكبون على متاع الدنيا وينسون الآخرة، فأحبوا الحياة وكرهوا الجهاد في سبـيل الله إلا من رحم الله. وهذا تصديق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في رواية ثوبان ـ رضي الله عنه ـ: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينتزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم؟ وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»[45].
11 ـ عدم إجابة الدعاء، وقد جاء في الحديث من رواية عائشة ـ رضي الله عنها ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم»[46].
12 ـ ظـهــور الاخـتـلاف بـين المسـلمـين، فإن من محـاسن الحســبة أنهـا توحـد الناس تحت مظلة الشرع، فإن تركــت أو قصر في أدائـها فـإن النـاس تتـشـعـب بهم السـبل ويظـهر بيـنهم الاخـتـلاف. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وجاء في الحديث النبوي الشريف: «من يعش منكم يرَ اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّـوا عليها بالنواجذ»[47].
• وسائل الحسبة:
وسائل الحسبة كثيرة جداً، لكن من أبرزها:
1 ـ الإنكار باليد.
2 ـ الوسائل المرئية كالفضائيات وما في حكمها.
3 ـ الأقراص المدمجة والمرنة.
4 ـ أشرطة الكاسيت.
5 ـ أشرطة الفيديو.
6 ـ تجديد طباعة الكتب الخاصة بالموضوع وتأليف كتب جديدة.
7 ـ نشر الدراسات والمقالات.
8 ـ الاستبانات.
9 ـ المواعظ في المساجد.
10 ـ خطب الجمعة.
11 ـ المحاضرات.
12 ـ الندوات.
13 ـ المؤتمرات.
وغيرها من الوسائل المتاحة.
• خاتمة :
لا شك أن الإنسان ـ سواء على مستوى شخصه أو على مستوى المجتمع ـ يحتاج دائماً إلى التذكير والتوجيه في معظم حالاته. ويأتي الاحتساب ليسدّ هذه الثغرة في حياته، فهي ضرب من التكافل والتناصر على الخير والمعروف والتعاون على سدِّ أبواب الشر والمنكر، وذلك لتتمكن سفينة المجتمع من السير في خضمِّ عباب الحياة آمنة مطمئنة.
وقد طفنا في هذا المبحث، عبر عناوين عدة، في أهم ما يتعلق بموضوع الحسبة والاحتساب، مما نرى أن من المهم بالنسبة للمسلم، والدعاة خاصة، أن يطلعوا عليه ويسبروا أغواره ويستشرفوا أبعاده.
وما كان من الحق فمن الله وحده، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


نحو آلية جديدة لتفعيل دور الحسبة
ممدوح إسماعيل 

الحسبة منهج شرعي جاء بها الوحيان (الكتاب، والسُّنَّة)، عرفه المسلمون منذ أربعة عشرة قرناً من الزمان باعتباره آلية مراقبة وتصحيح وتوجيه للحاكم والمحكومين قبل العالم كله في الشرق والغرب. وإذا كان العالم الغربي الآن تشدق بتقدمه وتفوقه على العالم العربي والإسلامي في مجال مراقبة الحكام ونقدهم، وتفعيل آليات تصحيح أخطائهم؛ فالإسلام العظيم سبق هذا العالم الذي يدّعي العدالة وحسن مراقبة الأحوال؛ من حيث الإنكار على الحكومات أو توجيه الشعوب للخير، وذلك فيما تم تعريفه عند علماء الإسلام باسم (الحسبة). وقبل الدخول في التفاصيل المتعلقة بالحسبة في واقعنا المعاصر لا بد من مقدمة حول تعريف الحسبة، ومشروعيتها، ومن يقوم بالحسبة، وأهمية الحسبة، وهي مـقدمة لا بد منها على عجـالة بـدون تفـصيل فقـهي أو سـرد تاريخي؛ لأن هذا ليس مجاله:
• تعريف الحسبة:
هي في اللغة: من العد والحساب، وتأتي بمعنى: طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل.
أما في الاصطلاح فقد عرفها جمهور الفقهاء بأنها:
(الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله).
• أدلة مشروعية الحسبة:
من القرآن الكريم قوله ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
إن في هذه الآية أمراً صريحاً من الله ـ عز وجل ـ بأن تكون هناك فئة من الناس قائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن السنة النبوية قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ».
فهذا الحديث يدل على أن إنكار المنكر واجب على كل الأمة، ولكنْ كـل منـهـم بحسـب استطاعته، ونلاحظ في الآيـة والحـديـث أنـهما لم يخصـصا منكراً بذاته بالإنكار؛ بل الأمر بالإنكار عام على كل المنكرات، وكذلك نجد أن سـيرة الصحــابة الكـرام ـ رضـي الله عنـهم ـ ذاخـرة بالأمـثلة الدالـة علـى مــشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل ووجــوبهما، فـما كان قـتال أبي بكر الصـديق لمانعي الزكــاة إلا إنـكـاراً للمـنكـر! فنـجـد أنـه لم يـرضَ أن يمتنع الناس عـن دفـع زكـاة أموالهـم التي كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فـقال الخليـفة الراشـد أبـو بـكر ـ رضي الله عنه ـ: «والله لأقـاتلن الذين فرقـوا بين الصـلاة والزكاة»، وقال أيضاً: «والله لأقاتلنهم لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
ولقد انعقد إجماع علماء الأمة على مشروعية الحسبة.
أما بالنسبة لحكمها، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اعتبار الحسبة من الواجبات الكفائية، فإذا قام بها بعض المكلفين سقطت عن الباقين منهم، ولكن الحسبة تكون فرضاً عينياً على من عينه الإمام لتولي هذه الولاية، فيكون مناطاً به القيام بما كلف به ولو قام به غيره.
• الشروط الواجب توفرها بالمحتسب:
1 ـ الإسلام.
2 ـ التكليف (البلوغ والعقل).
3- العلم.
4- العدالة.
5- القدرة.
• أهمية الحسبة والحكمة منها:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها، ومنع المفاسد وتقليلها، وهذا ما يحققه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونستطيع أن نلخص أهم دور تقوم به الحسبة:
ـ حماية لدين الله ـ تعالى ـ بضمان تطبيقه في حياة الناس الخاصة والعامة.
ـ العمل على استقامة الموازين الاجتماعية، والحفاظ على المفاهيم والثوابت الشرعية واستقرارها؛ حتى لا ينقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً. لذا نجد أن من أشد الأمور خطورة انتشار المنكرات، ثم تواطؤ المجتمع على السكوت عنها، ثم قبولها أخيراً.
ـ منع حالات انتشار الفساد الجماعي مما يكون سبباً في دفع العقاب العام من الله ـ سبحانه ـ؛ ذلك لأن انتشار المنكرات وظهور الفساد يجلبان عذاب الله جلّت قدرته.
ـ تحقيق وصف الخيرية للأمة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ومن هذه النقطة الأخيرة الهامة نبدأ عن واقعنا المعاصر.
فقد عاشت الأمة الإسلامية في خيرية تزيد بفضل تطبيق الحسبة في المجتمع الإسلامي، وتقل الخيريّة بنقصان تطبيق الحسبة في المجتمع؛ ولكن ظلت الحسبة منهجاً قرآنياً حاضراً وموجوداً في حياة الأمة الإسلامية حتى بدأ المنهج يتقلص في آحاد الأفراد وبعض العلماء، ورغـم ذلك دفعت الحسبة شروراً كثيرة عن الأمة بفضل قيام أفراد من العلماء بتطبيق ذلك المنهج والقيام به على الحاكم والمحكوم. والتاريخ لا ينسى مواقف كثيرة لعلماء الإسلام، ومنهم على سبيل المثال: (سلطان العلماء) العز بن عبد السلام، عندما قام محتسباً أجره على الله، ودعى المماليك، وهم الحكام في عصره، إلى نبذ الخلاف والفرقة لمواجهة خطر التتار، ودعاهم إلى أن تكون بداية التصحيح منهم؛ فبدأ بجمع الأموال والذهب من الحكام المماليك قبل الشعب للإعداد لمواجهة التتار المعتدين. ومع الضعف الذي نخر في جسد الأمة الإسلامية ضعُف منهج الحسبة وضعفت تماماً آلية تنفيذه، وبدأت في الاندثار؛ لكن ظل كثير من العلماء في أماكن متفرقة في العالم الإسلامي يقومون بإحياء ذلك المنهج على قدر استطاعتهم، وقد برز ذلك أمام الحملات الاستعمارية التى غزت بلاد المسلمين، فظهر الشيخ المجاهد عمر المختار في ليبيا مجاهداً الاستعمار الإيطالي، وعمر مكرم والشيخ الشرقاوي في مصر، وغيرهم كثير في أماكن شتى. ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نشير إلى حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية التي قاومت المنكرات من الشركيات والبدع، وأقامت علم التوحيد في جزيرة العرب، بعد أن غلبت الشركيات أماكن كثيرة في جزيرة العرب. ولكن الاستعمار الصليبي الذي دخل بلاد المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي فطن إلى أهمية الحسبة، كآلية عمل توقظ الأمة وتسدد خطاها وتصلح المفاسد، فعمل على القضاء عليها نهائياً بتغريب المجتمع المسلم وإبعاده عن هويته الإسلامية، وكان أخطر ما قام به الاستعمار الصليبي في القرن التاسع عشر هو تحكيم القوانين الوضعية في بلاد المسلمين، وقد ساعده على ذلك:
1 - ما قام به المستعمر من تربية مجموعة من المنتسبين للإسلام من الذين اتبعوا الغرب، وأُشربت قلوبهم ثقافته ودعمهم، وهم الذين تولى كثير منهم مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية تحت لافتة ما يسمى (التحرر الوطني).
2 - الضعف الشديد في الحالة الإيمانية في العالم الإسلامي. ومن المعلوم أن الحسبة لا يقوم بها إلا أهل الإيمان، المحتسبون الأجر من الله ـ تعالى ـ، وقد عمل المستعمر على زيادة إضعاف المسلمين بنشر البدع والأفكار الضالة، مثل: القاديانية، والبهائية، وغيرها من الأفكار الضالة التي تلبس ثوب الإسلام زوراً، وتدافع عن المستعمرالكافر.
3 - سيطر المستعمرون على كثير من العلماء الذين استجابوا للواقع وسكتوا على نشر القوانين الوضعية، بدلاً من أحكام الشريعة.
ننتقل إلى واقعنا المعاصر، والسبل المتاحة لتفعيل الحسبة على قدر المتاح والممكن في ظل الأنظمة المعاصرة.
1 ـ الحسبة عن طريق التقاضي:
اندثرت الحسبة ولم يبقَ لها ذكر في أكثر بلاد المسلمين إلا في قوانين الأحوال الشخصية، ومن هذه الثغرة نفذ كثير من المحتسبين إلى مقاومة المنكرات، وعلى سبيل المثال: دعوى التفريق الشهيرة في مصر ضدالدكتور نصر أبو زيد وزوجته؛ لاتهامه بالردة، وقد استجاب القضاء المصري في كل درجاته وأصدر حكماً شهيراً بالتفريق بينه وبين زوجته، ولكنها كانت الدعوى الأخيرة؛ فقد ضغطت منظمات غربية كثيرة في الغرب ومن والاهم في بلاد العرب والمسلمين ضد قانون الحسبة فتم إلغاؤه، وصدور قانون جديد برقم 3 لسنة 1996م يلغي حق الأفراد في الحسبة، ورغم ذلك فالقانون به عوار وأخطاء قانونية؛ لأنه يتعارض مع الدستور المصري ولكنه ظل سارياً حتى الآن رغم خطئه! وقد نجح أعداء الإسلام من خلاله في شل يد الغيورين من المحتسبين في الإنكار عن طريق التقاضي، وهي آلية كانت فاعلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الواقع المعاصر وإنْ تَرَكَ البـاب مفتـوحاً في حق المواطنـين في الإبلاغ عن المنكرات، أو ما سمي (المخالفات والجرائم) للسلطات العامة، إلا أنه ترك السلطة هي المتحكمة في القدرة والسيطرة في التفاعل مع المنكرات أو الجرائم، فغُلَّت أيدي المحتسـبين تمـاماً، وتبـقى هـذه الوسيلة فاعلة للمحتسبين لو تم استغلالها عن طريق عمل منظم وجماعي، باستخدام الآليات الحديثة في العمل المدني.
2 ـ الحسبة عن طريق منظمات المجتمع المدني:
مع إضاعة الحكم بالشريعة في معظم بلاد المسلمين واستبدالها بالقوانين الوضعية، وتولي الحكم في بلاد المسلمين حكامٌ أُشربت قلوبهم الأفكار الغربية، وحكام مستبدون ضيعوا حقوق الشرع وحقوق المسلمين، ثم مع افتقاد منهج الحسبة بآليته المعروفة تاريخياً وتراثياً ـ إلا في المملكة العربية السعودية ـ لم يبقَ للأمة غير الاجتهاد في تفعيل آلية جديدة ينفذ منها المحتسبون إلى القيام بهذا الواجب الشرعي. والمتأمل في الواقع لا يجد مثلاً إلا العمل من خلال ما يلي:
أولاً: الجمعيات الأهلية التي تعرف كآلية من آليات منظمات المجتمع المدني، على أساس أن إطارها القانوني يسمح بتجمع عدد من الناس يعملون من خلال الجمعية في أعمال الخير سواء الاجتماعية أو الدينية، ومن خلالها يتاح التصدي للمنكرات على قدر المستطاع، والأمر بالمعروف عن طريق النشرات الدورية أو الندوات. والتفاعل مع المجتمع عبر هذه الآلية يحقق الآتي:
1 ـ يعمل على استمرارية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واستمرارية منهج الحسبة.
2 ـ يقف أمام المفسدين عبر أطُر قانونية؛ تسمح بها أنظمة الحكم العلمانية.
3 ـ يحافظ على هوية الأمة من الذوبان، ويعمل على الإحياء على قدر المستطاع.
4 ـ التواصل مع الناس عبر هذه الجمعيات؛ مما يقوي صِلات المسلمين بعضهم ببعض. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الجمعيات الأهلية في بعض البلاد الإسلامية من حقها أن تشرف على المساجد من: بناء، وإقامة الصلوات والشعائر والدروس، وكلها أسباب تتيح تواصل المحتسبين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكـر بالكلمـة، ســواء أفي الــدروس أو الخطابة.
ثانياً: مجال المنظمات الحقوقية غاب عنه الكثير من المسلمين المحتسبين؛ بسبب توهم بعضهم أنها تنطلق من الخضوع إلى القوانين الوضعية في العالم؛ ولكن الحقيقة أن المنظـمات الحقوقية آلية هامة للمحتسبين في الإنكار، وما يمكن أن يطلق عليه مجال (الحسبة السياسية) وما يظنه بعـضهم خضوعاً للقوانين الوضعية ليس بهذه البساطة! فكما أفتى كثير من العلماء، وعلى رأسهم الشيخ الفاضل عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ حول العمل بالمحاماة في بلاد تحكم بالقوانين الوضعية، اشترط أن يكون ذلك دفعاً لظلم، والحصول على حق ضائع ومفقود لا يأتي إلا بهذه الطريقة، والكثير من القانونيين الإسلاميين يعرفون كيف يستغلون القوانين لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، وهناك كثير من المظالم يتعرض لها الكثير من المسلمين في بلاد العالم ووسيلتهم الفعالة هي المنظمات الحقوقية، وأيضاً كثير من الحقوق المسلوبة والمختطفة من المسلمين آلية المنظمات الحقوقية هي أنسب الطرق لاستعادتها، ولها حق التصدي لكل ما يخص الحقوق السياسية للمسلمين، فضلاً عن أن المنظمات الحقوقية لها حق التصدي للاستبداد والظلم؛ فهي تحقق حقاً من حقوق المحتسبين، ضاع في زخم الحياة وضعف المسلمين وقهر المستبدين.
ثالثاً: يبقى في هذا الشأن العمل النظامي، وهو آلية اختلف فيها الكثير من العلماء المعاصرين، كلٌّ له رأيه واجتهاده، وإن كانت المنظمات الإسلامية في الواقع المعاصر آلية معارضة شرعية ضد النظم العلمانية إلا أنها مازالت حتى الآن لم تقدم المأمول منها. إني أظن أن مرد ذلك ليس في العمل النظامي في حد ذاته؛ ولكن بسبب:
1 ـ كثيرٍ من معوقات النُّظُم العلمانية.
2 - غياب الرؤية الواضحة لحدود الاجتهادات السياسية، وقدرة القائمين على العمل المنظم في الصمود والثبات على المسلَّمات الشرعية، مهما كانت المغريات والمصالح الوقتية.
لذلك أرى أن مثل هذا العمل، كآلية معارضة ضد المستبدين في ضوء المتاح والممكن، قد تنجح باعتبارها عملاً من أعمال الحسبة، على شريطة الوعي الشرعي والسياسي القائمَين على ذلك الأساس. أظن أنها آلية جديرة بالنظر على ضوء مستجدات الواقع مع مراعاة خصوصية كل دولة إسلامية من حيث واقعها وظروفها. ويبقى أخيراً أن الاحتساب بشكله التقليدي قد لا يكون ممكناً في الكثير من البلاد الإسلامية؛ بسبب المعاداة للإسلام والاستبداد العلماني المتنوع في الشكل والمظهر، لكن يبقى أنه يُوجِد الكثير من الآليات التي يستطيع من خلالها المحتسبون حماية الدين، ودفع المنكرات، والأمر بالمعـروف علـى قـدر الاستـطاعة والمتاح والممكن. ففضلاً عـمَّا ذكـرتـه منـها، على سبيل المثال وسائل الإعلام (المرئية، والمسموعة، والمقروءة) فهـي وسـيلة ناجـحة للاحـتساب، خـاصـة إذا ما توفر في المحتسب القدرات الإعلامية مع الشروط الأخرى في الاحتساب، فهي تؤدي قدراً جيداً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قدر الاستطاعة. وستبقى الحسبة أنموذجاً فريداً قدمه الإسلام، وما زال، لحمـايـة الديـن والمجتمع من الفساد والمفسدين. وأحسب أن هذه الرؤية يمكن أن تناقش من السادة العلماء، لا سيما أن هذا الأمر يلزم أن يدرس بجـدية لأهميته؛ فالاجتهاد حيال نوازل العصر مطلوب، والله المستعان.


هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشروع إصلاح ومنهاج تغيير
 
خباب بن مروان الحمد

يفترق المسلمون عن المنافقين بعدَّة فوارق، من أهمِّها وأبرزها: أنَّ المسلمين امتازوا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث شرَّفهم الله بها وامتدحهم بإقامتها بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وأمّـَا المنافقون الطاغون فإنَّهم لا محالة سيعيشون على سياسة قلب الموازين وخلط الأوراق لمحاولة هزِّ القيم والمبادئ؛ لهذا وصفهم الله ـ تعالى ـ بقوله: {الْـمُنَافِقُونَ وَالْـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمَعْرُوفِ} [التوبة: 67].
وهكذا مضى المسلمون، فقد عاشوا في صدر الإسلام وعصـوره الزاهرة يأمـرون بالمعـروف وينهـون عن المنـكر، وما فتئ الزمان يدور حتَّى ضعفت الأمَّة واستبيحت حرماتها بالاستخراب الذي يسمونه استعماراً، واستُبدِلَت المناهج الوضعيَّة بحكم الله ومنهجه، وصارت غالب البلدان المسلمة تُحارَبُ فيها هذه الشعيرة من أفراد أو مجموعات مشبوهة وشانئة لأسباب لا تخفى على المسلمين.
وتُعدُّ تجربة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في المملكة العربيَّة السعوديَّة تجربة رائدة، حقَّقت إنجازات عظيمة، وخدمات جليلة، تستحق الإشادة والتأييد.
وفي هذا التحقيق نحاول تسليط الضوء وإبراز الدور الذي تقوم به هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجالها الفضلاء من الأعمال الجليلة والآثار الإيجابيَّة على الفرد والمجتمع.
وبما أنَّ هناك الكثير من التساؤلات التي قد يطرحها أنـاس أو يثيـرها آخرون عن جهاز هيئة الأمر بالمعروف، فإننا حاولنا أن نضعها بين يدي المشاركين في هذا التحقيق، من رجال الهيئة وغيرهم؛ ليتم الإجابة عنها وإيضاحها.
فكيف نشأ جهاز الحسبة في المملكة العربيَّة السعوديَّة؟
وهل جهاز ضخم كهذا يتصادم مع الحرية الشخصية، كما يثيره بعضهم؟
وما الجهود التي يقوم بها رجال الحسبة في إنكار المنكرات؟
وكيف تعالج الهيئة هذه المنكرات؟
هناك العديد من الجهود الضخمة التي أوقف بها رجال الهيئات شعوذة المشعوذين وسحر السحرة وهذيان العرَّافين؛ فما هذه الجهود؟
وهل كان لأداء الهيئات أثر ملحوظ في كبح الفساد وأهله؟
وما مجالات الضبط الاجتماعي والأخلاقي الذي تقوم به الهيئات في مجال الإصلاح؟
وما مدى موضوعيَّة تلك الأقلام الناقدة لجهاز الهيئات والتي تثير عليها الضغائن والأحقاد؟ وماذا يُقال لهؤلاء؟
ولكن! أليس هناك من سلبيات وأخطاء وقع بها بعض رجال الهيئات؟
هذه نتف من أسئلة متعددة نثرناها في ثنايا هذا التحقيق، محاولين الغوص وراء الحقيقة أين تكمن؟ وما وراءها؟... فإلى محاور التحقيق وإجابات المشاركين ننتقل بعون الله وتوفيقه؛ رغبة في الوصول إلى الحقيقة!
• جهود الهيئات تجاه إبطال المنكرات:
تقوم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحملة كبيرة في رعاية مصالح الناس والحفاظ على حقوقهم ورعاية حرماتهم وصيانة أعراضهم، وفي الموضوع ذاته سألنا معالي الشيخ إبراهيم الغيث ـ الرئيس العام لإدارة جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ عن ماهيَّة الجهود التي تقوم بها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إنكار المنكرات العامَّة؟
فأجـاب معـاليه: أما عن جهود الرئاسة في إنكار المنكرات فالجهود ـ ولله الحمد ـ في هذا المجال كثيرة وواسعة ولا يمكن حصرها في هذه العجالة، لكنها تتركز في عدة جوانب، أبرزها:
ـ حماية العقيدة من شوائب الشرك والبدع والخرافات والسحر والكهانة.. إلخ.
ـ إلزام الناس بإقامة الواجبات الشرعية، وحث الناس على إظهار الشعائر الإسلامية، واتخاذ الإجراءات اللازمة بحق المتهاونين بها.
ـ صيانة الأعراض وحماية الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية وحفظ الفضيلة مما يدنسها من سيئ القول والفعل، وقمع الرذيلة، ووقاية المجتمع من مخاطرها.
بيدَ أنَّه يُلحظ أن جهود الهيئة مركزة ومنصبة في قضية النهي عن المنكر أكثر من الأمر بالمعروف، ولهذا وجَّهت سؤالاً بهذا الفحوى لمعالي الشيخ الغيث فأجاب: تقوم الرئاسة بمكافحة المنكر قبل وقوعه وذلك بالأساليب الوقائية، وتقوم بالأمر بالمعروف كل في موطنه، لكن النهي عن المنكر غُلِّب بسبب تسليط الإعلام عليه، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكملان لبعضهما وكل له أحواله حسبما هو مقرر في فقه الحسبة.
وبهذا الخصـوص طلبـنا من الدكـتور عبـد العزيز الفوزان ـ عضو هيئة حقوق الإنسان بالمملكة ـ أن يتحدث لنا عن دور جهاز الهيئات في هذا المجال وبخاصة في الحفاظ على حقوق الإنسان، فقال فضيلته:
المتأمل فيما تقوم به هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية يدرك بجلاء أهمية القيام بهذه الشعيرة، وأثرها العظيم في مكافحة الجرائم، وملاحقة المجرمين، وقطع دابرهم، وحماية المجتمع من شرِّهم وفسادهم، هذا بالإضافة إلى ما يقومون به من توجيه وإرشاد، وتربية وإعداد، ودعوة إلى الله ـ تعالى ـ بالحكمة والموعظة الحسنة، من تذكير الغافلين، وتعليم الجاهلين، حتَّى ينهض العاطل، وينشط المتكاسل، ويرعوي المتطاول.
ويواصل حديثه: إنهم يسهمون مساهمة فعالة في تحقيق الأمن، وحماية مصالح الناس، وحماية الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها، وحمايتها من كل اعتداء واقع أو متوقع عليها، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. والحفاظ على هـذه المصـالح هو جماع العناية بحقوق الإنسان والاهتمام بها.
ومن جانب آخر يقول الدكتور عبدالله بن دجين السهلي: من خلال أنظمة الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقارير الإحصائية الصادرة عنها، وبرامجها المختلفة؛ نجد لها مهام كبيرة وجليلة، فهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سمة مميزة للمجتمع السعودي المسلم، تحفظ له هويته، وتصون نسيجه الاجتماعي، وتعزز وقايته من الانحرافات السلوكية التي تصحب متغيرات الانفتاح على ثقافات الآخرين؛ صيانة للقيم، ومحافظة على الأخلاق الفاضلة. وإن حماية المجتمع وصيانته وبقاءه نقياً هو مقصد نبيل تسعى إليه كل المجتمعات.
ويختصر الجواب الدكتور عبد العزيز الفوزان حول هذه القضيَّة فيقول: المقصود بهذه الشعيرة باختصار: حماية حقوق الإنسان الدينية والدنيوية.
• معايير الاختيار لرجال الهيئات:
ما الآليـة التي يـتـم مـن خلالـها اختيار أعضاء الهيئة؟ وهل هناك معايير وشروط معينة لقبول الأعضاء الجدد؟
عن هذين السؤالين أجاب معالي الشيخ إبراهيم الغيث بالتالي: بالنسبة للتعيين في العمل الميداني في الهيئة فهو يتم وفق الشروط التي حددها النظام وتحديداً دليل تصنيف الوظـائف في الخدمة المدنية، لذا نحن في الرئاسة نعمل وفقاً لما تضمنه قرار مجلس الخدمة المدنية والمتضمن قواعد وشروط، مع أنَّه يتم الإعلان عن الوظائف للجميع بهدف توسيع دائرة الاختيار للأفضل من بين المتقدمين ممن تتوفر لديهم المؤهلات والشروط المطلوبة للوظيفة ومن ثَمَّ تحديد مواعيد لهم من قبل اللجان المختصة لإجراء المقابلة الشخصية معهم واختيار الأفضل وفق ما يحصل عليه كل منهم من درجات.
ووجَّهت له سؤالاً: ما الشروط المحددة؟ فأجاب: حدَّد دليل تصنيف الوظائف في الخدمة المدنية معارف وقدرات ومهارات مطلوبة لشغل وظائفنا الميدانية، منها:
ـ المعرفة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح بواقع الحسبة.
ـ أن يكون متحلياً بالحلم والأناة، مطبقاً لأحكام الله، مجتنباً لما نهى عنه وكل ما يخل بالمروءة، متحلياً بالأخلاق الفاضلة.
ـ أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، حليماً صبوراً.
ـ اجتياز المقابلة الشخصية.
ويضيف الدكتور السهلي على هذا الحديث: الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تولي عناية فائقة في اختيار الأعضاء الميدانيين؛ نظراً لخصوصية التعيين في هذا الجهاز، حيث إن المتقدم يخضع إلى معايير واختبارات دقيقة، وذلك من خلال لجنة مشكلة لهذا الغرض من عدة إدارات؛ لمعرفة مدى تطابق الشروط الواجب توفرها في المتقدم، ولعل من أبرزها:
1 ـ سلامة المعتقد، والإلمام بالأحكام الشرعية بحيث يكون على دراية بما يأمر به وما ينهى عنه.
2 ـ أن يكون مظهر المتقدم مناسباً للعمل في الهيئة، وذلك من حيث التزامه بالسنن الشرعية، والمحافظة على الفرائض، والبعد عن كل ما يخل بالمروءة.
3 ـ التأهيل الشرعي والعلمي المناسبين للوظيفة والمرتبة.
4 ـ سلامة الجسم والحواس والقدرة على مخاطبة الآخرين.
5 ـ الحرص على من لديه تزكيات علمية من العلماء وأساتذة الجامعات والمشهود له فيها بالعلم والصلاح.
• أشدَّاء على السحرة:
كان لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهود كبيرة في قمع السحرة والمشعوذين، وندلِّل على ذلك بحالة واحدة من مئات الحالات التي كان للهيئات فيها دور في كبح وقمع آثار السحرة، حيث تناقلت وكالات الأنباء والصحف السعوديَّة تمكُّن مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحي الفاروق بالرياض من ضبط أكبر وأخطر عصابة من المشعوذين والسحرة، وقد صرح بذلك لجريدة (الجزيرة) الشيخ عادل المقبل رئيس هيئة الفاروق، وأوضح أن الهيئة وضعت خطة محكمة للقبض على السحرة، وذلك بعد تلقيها بلاغاً يفيد بقيام بعض السحرة بممارسة السحر والشعوذة مقابل مبالغ مالية..
وعن طريقة القبض على الساحر قامت الهيئة بدورها وكلفت أحد أعضائها بالاتصال بالمشعوذ وطلب مساعدته في حل مشكلة أسريَّة، وعندها طلب الساحر أسماء الزوجات ووالداتهن واسم الزوج، وطلب مبلغ 100 ألف ريال مقابل أجرة هذا العمل. بعدها قام الساحر بالاتصال بعضو الهيئة الذي كان (متخفياً)، وقال له: إن هذا العمل أكبر منه وعليه أن يتوجه إلى شيخ (ساحر) أكبر منه وسيقوم هو بدور الوسيط.. ووفقاً لهذه الخطة تم تحديد الموعد خارج مدينة الرياض بسبب أن الساحر قام بربط العمل برِجل طائر الحمام وسيقوم بإطلاقها بعيداً حتى لا يجد أحد هذا العمل. وهنا وضعت فرقة من الهيئة كميناً في الموقع الذي حدد من قبل الساحر المزعوم، بعدها ألقت القبض عليه وعلى بقية المجموعة.
وقد أكَّد الشيخ المقبل أن الساحرَيْن اعترفا بعملهما بعد إجراء التحقيق معهما وبوجود زعيم لهم مع مجموعة من السحرة الآخرين يقيمون في أحد المواقع السكنية بحي النسيم شرق الرياض.. ولفت الشيخ عادل المقبل النظر إلى أن الهيئة توجهت إلى الموقع وداهمت وكرهم وألقت القبض على أربعة سحرة، من بينهم كبيرهم الذي علمهم السحر.. وتم خلال المداهمة العثور على كتب وطلاسم سحرية تعلم السحر، كانت قد دونت عليها أسماء الضحايا الذين خدعوا بما يقومون به من أعمال سحر وشعوذة تجاههم.
ولهذا حدَّثنا معالي الشيخ إبراهيم الغيث عن تلك الجهود التي تقوم بها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه السحرة والمشعوذين قائلاً: لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما لا يخفى ـ جهود مستمرة في متابعة السحرة والمشعوذين والقبض على من ثبت عليه ذلك. وقد أولت الرئاسة العامة هذا الموضوع اهتماماً كبيراً، ومن ذلك: تخصيص مركز هيئة معين في كل مدينة ليكون هو المسؤول عما يظهر له من وجود سحرة أو مشعوذين واستقبال البلاغات والإخباريات عن المتهمين بالسحر والشعوذة.
• كثير من النقد يراد به النقض لأغراض خاصَّة:
هـناك بعـض الأقـلام تتـحدَّث نـاقـدة بشـدَّة جـهاز الهيـئات، والـتي هـمُّـها في الغـالب عرض الأخطاء والزلاَّت التي تـقع مـن أي فرد يعمل في قطاع حكومي، فما القول حيال ذلك؟
يتحدَّث لنا الدكتور السهلي: بأنَّ هذا النقد له أغراض لم تعد مجهولة، وهذه الأغراض تتضح جلية بالمقارنة والجمع بينها، كما أنَّ بعض هذا النقد سببه توجهات فكرية مناهضة للإسلام كالعَلْمانية وغيرها. ومحاربتهم للهيئات لأنها تمثل ولاية شرعية من نظام الحكم في الإسلام، ولأنها مظهر من مظـاهره في المجـتمع، لذلك فإن بعضـهم لا يعـترض علـى ما يشابهها في الأنظمة الغربية.
كما أشار فضيلة الدكتور السهلي إلى أنَّ بعض النقد كان نتيجة لسلوك خاطئ، مع عدم ادِّعاء العصمة لرجال الهيئات، لكن ينبغي الحرص على النقد الهادف، ومعالجة الانحراف في بعض وسائل الإعلام، حتَّى يؤدي النقد هدفه بدلاً من أن يثير الرأي العام فحسب.
وأمَّا الأستاذ زياد الرقيب ـ المدير العام لأسواق (صحارى) التي تعد من أكبر الأسواق التجاريَّة في مدينة الرياض ـ فيتحدَّث لنا حول ذلك بقوله: في اعتقادي أنَّ رجال الهيئة هم وحدهم من يستطيع الرد على هذه الأقلام ببرهنة مدى أهميتهم في المجتمع المسلم، فالخطأ وارد من أي شخص سواء أكان من منسوبي الهيئة أم غيرهم، ويجب أن لا تلصق أخطاء فرد بجهاز بأكمله، ولكن وللأسف فإن الحسن يخص والسيئ يعم عند الناس.
ومن جهته يقول الأستاذ يوسف القفاري ـ الرئيس التنفيذي لأسواق العثيم التجاريَّة ـ: لا أعتقد بأن أي جهاز حكومي معصوم من الخطأ، إلا أني أرفض قطعياً أي نقد يراد به الإساءة لهذا الجهاز أو محاولة إلغاء دوره أو التقليل من شأنه، وأي نقد لا يهدف إلى الإصلاح أو إضافة نوعية للجهاز فإني أرى عـدم إعـارته أي اهتـمام؛ لأن أهدافه في الغالب مغرضة ولا تخدم المصلحة العامة. وأعتقد أن على جهاز الهيئات تسليط الضوء خلال المراحل القادمة على دور الهيئة الإصلاحي؛ من خلال عرض بيانات وأرقام إحصائية تعكس النتائج المحققة، والتركيز على الشفافية من خلال الاعتراف بالأخطاء الفردية التي قد تصدر من أفراد الهيئة والإعلان عنها مسبقاً قبل استغلال هذه الأخطاء من قِبَل المغرضين.
أمَّا الشيخ الدكتور عبد العزيز الفوزان فيرى أنَّ الهيئات جـهاز حكـومي شأنـه شأن بقيـة الأجـهزة الحكـومـية التي لا تخلو من النقص والتقصير ومنها الاجتهادات الخاطئة من بعض منسوبيها.
لكنَّه استدرك بقوله: العاملون في الهيئات من خيرة الناس، وصفوة المجتمع، وأهل الخير والصلاح، والحمية والغيرة، لكنهم بشر غير معصومين، وقد يجتهدون ويخطئون، ولكن أخطاءهم مغمورة في بحور حسناتهم، وما يقع فيه شواذ من أفرادهم أو المتعاونين معهم لا يجوز أن يرمى به جميعهم، ويتهم به جملتهم، فضلاً عن أن تنتقص به مهمتهم، ويطعن به في أساس وظيفتهم، التي هي وظيفة الأمة جمعاء، وبها استحقت الخيرية على سائر الأمم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل عمران: 110].
وما يفعله بعض الجهلة والحاقدين من تقصي أخطاء الهيئات، وتتبع عثراتها، وتهويلها والمبالغة فيها، حتى يجعلوا من الحبة قبة ـ كما يقال ـ ومن الصغير كبيراً، وربما طالب بعضهم بإلغاء الهيئات وتعطيلها؛ كل ذلك من الظلم والجهل وقصر النظر وسفاهة العقل. ولو أنا طبقنا هذا المنهج على بقية الدوائر الحكومية، والمؤسسات الأهلية؛ لم نبقِ منها شيئاً، ولعطلناها جميعاً.
وهذا لا يعني بحال تبرير أخطاء الهيئات، أو السكوت عن تجاوزات منسوبيها ـ إن حصلت ـ، بل من أخطأ منهم يجب أن يصوّب، ومن تعدى وظلم يجب أن يُعاقب ويُؤدب.
ويختتم جواب هذه القضيَّة معالي الشيخ إبراهيم الغيث حيث يرى أنَّ الأقلام التي تتناول جهاز الهيئة بالنقد غير البنّاء كثيرة في الداخل والخارج، وعلَّل ذلك بقوله: ومردُّ ذلك راجع إلى عدة أمور، منها: العداوة أو الجهل بحقيقة هذه الشعيرة أو الهـوى الذي يعمي ويصم، ونحن كغيرنا نتعرض للنقد ونقبله إذا كان واقعياً ومفيداً. أما النقد الخالي من الدلائل والبراهين المبنـي على الإشـاعات وسـوء الظـن وكـلام المجالس فهذا لا نأبه به.
والدعاوى إذا لم يقيموا عليها
بينات أصحابها أدعياء
ويضيف معاليه: ولكننا في الرئاسة نحفل ونهتم بالرأي الآخر والنقد البناء الذي يطور عمل الرئاسة ويسمو بأهدافها عالياً لما فيه خدمة المجتمع وأهله.
• نتائج و ثمرات تستدعي وجود الهيئات:
في جواب لمعالي الشيخ إبراهيم الغيث عن سر الثمرات الداعيـة لبقـاء جهـاز الهيـئات؟ وهـل هـناك مـا يدعـو إلى إلـغائه أو تحجيم دوره؟ أجابنا: لا شك أن وجود جهاز الهيئة في المملكة له ثمرات إيجابية في إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الهيئة لها أثر عظيم في حفظ عقيدة الإسلام ومكافحة ما يضادها، ولها دور كبير في حفظ أمن وأخلاق المجتمع، ويلمس هذا الأثر كل من عاش في هذه البلاد المباركة، ورأى ما تنعم به من خير في إقامة الصلاة وإغلاق المحلات التجارية أثناء إقامة الصلاة في وقتها المفروض وهذا ما تفتخر به هذه البلاد المباركة بين بلدان العالم الإسلامي في العصر الحديث.
ومن جهته أجابنا الدكتور السهلي بجواب طويل، حيث يرى أنَّ للهيئات داعياً للوجود والبقاء كما هي بل تفعيلها أكثر فأكثر؛ لأنَّه يرى أنَّها تقوم بعمليَّة إصلاح كبيرة وذلك من خلال الضبط الاجتماعي والأخلاقي والأمني.
سألته وكيف تقوم الهيئات بذلك الضبط في هذه النواحي؟
فأجاب: يراد بالضبط الاجتماعي الذي تقوم به الهيئات: المحافظة على الشعائر الظاهرة والقيم السائدة والآداب العامة في المجتمع، بطريقة متوازنة، مع الأخذ بأسباب التطوير والتحديث.
ويدخل في هذه المهمة للهيئة جوانب كثيرة من الواجبات الشرعية، فمنها: المحافظة على الصلاة في المساجد، وإغلاق المحلات، وعدم مزاولة البيع أثناء الصلاة، ومنع الإفطار في نهار رمضان، ومنع الاختلاط والتبرج، وتشبُّه أحد الجنسين بالآخر، والجهر بالألفاظ المخلة بالحياء، أو المنافية للأدب، ومراقبة الأسواق العامة والطرقات والحدائق وغيرها.
ثمَّ حدَّثنا عن الأثر الأخلاقي فقال: بقاء الأمم ببقاء الأخلاق، وعمل الهيئات هو ضبط أخلاق المجتمع من الانفلات، ومنع الغرائز والشهوات من التعدي على الآخرين، وقد تم ضبط من يقع في القضايا الأخلاقية فبلغ عدد الحالات في العام المالي 1424/1423هـ أكثر من 45 ألف حالة، وتمثل نسبة 11.8% من إجمالي عمل الهيئة، بزيادة عن العام الذي قبله بنسبة 9.5%. ومن عمل الهيئات في الجانب الأخلاقي قضايا المطبوعات والتي تشمل: الصور الخليعة، والأشرطة والأقراص المدمجة المحتوية على المشاهد الجنسية وغيرها، وتبلغ (3093) حالة، وتمثل 0.8% من إجمالي عمل الهيئة، وبزيادة عن العام السابق 41.2%.
وأما الأثر الأمني لعمل الهيئات فحث الناس على أداء العبادات هو في حد ذاته حفاظ على أمن المجتمع، فهذه الشعائر لها أثر كبير في سلوك المسلم. كما أنها تحاول منع الجريمة قبل وقوعها عبر عدة برامج كالتوعية وغيرها، وكذلك وضع المعوقات أمام السلوك المنحرف بتواجدها في الأماكن العامة. ويلاحظ تضمن نظام الهيئات وتقاريرها الإحصائية جوانب أمنية مهمة، مثل: ضبط المسكرات، ففي تقرير العام المالي 1423/1424هـ بلغت قضايا المسكرات (3366) قضية، وقضايا المخدرات (785) قضية.
• والتقارير شاهدة على جهود الهيئات:
لقد أوضح التقرير السنوي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعام 1425ـ 1426هـ والمقدَّم إلى مجلس الشورى أنه تم ضبط 390117 قضية، وتفاصيلها على النحو التالي:

الأخطاء في العقيدة
444
العبادة والتقصير بالصلاة
302825
السلوك الأخلاقي السيِّئ
45709
الإخلال بالآداب العامة
20500
تعاطي المخدرات وترويجها
810
المطبوعات السيئة
3533
المخالفات الشرعية للمحلات التجاريّة
5030
تعاطي المسكرات والمخدرات
3379

كما أنَّ التقرير شمل رصداً دقيقاً لمناشط الرئاسة ومنجزاتها التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولاً: في مجال التوعية والتوجيه: تم إقامة (50) مركزاً توجيهياً لتوعية أفراد المجتمع، وعقد (741) ندوة، وإلقاء (2756) محاضرة، و (21.517) كلمة وعظية قصيرة، كما تم توزيع (5.904.074) مطبوعة مقروءة، و (1.103.887) مطبوعة مسموعة، وذلك لتوجيه الشباب إلى عدم الوقوع في المخالفات وتحذيرهم من المنكرات ولا سيما في المواسم والإجازات.
كما تم استدعاء ومناصحة (14.682) شخصاً لمن صدرت منه بعـض المخـالفـات الشـرعـية التي تدخل ضمن اختصاصات الرئاسة.
ثانياً: في مجال ضبط الوقوعات: تم ضبط (390.117) واقعة، بزيادة عن العام الماضي مقدارها 6%.
ثالثاً: في مجال الدراسات والبحوث: تم التعاقد مع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات لإعداد دراسة ميدانية تحليلية شاملة للوقوعات التي يتم ضبطها من قِبَل مراكز الهيئة.
• رجال الأعمال يتحدَّثون عن آثار الهيئات:
سألنا بعض التجَّار ورجال الأعمال وأصحاب المحلاَّت التجاريَّة ورأيناهم يجمعون على ما للهيئات من أثر كبير في الحفاظ على بنية المجتمع ورعاية حقوقه، وبهذا حدَّثنا الأستاذ يوسف القفاري ـ الرئيس التنفيذي لأسواق العثيم ـ حيث يرى أن للهيئات أثراً كبيراً وبالغ الأهمية في حماية السوق من التجاوزات غير الأخلاقية، ويضيف: وقد لمسنا ذلك ووقفنا عليه في العديد من المخالفات التي ضبطت بجهود وتعاون رجال الهيئة.
ويضيف الأستاذ زياد الرقيب ـ المدير العام لأسواق صحارى التجاريَّة ـ فيقول: لا شك أن للهيئات دوراً كبيراً في حماية السوق من المفسدين. وبشكل أشمل وأعم: لها دور كبير في حماية البلاد من الفساد، ولقد أسهمت بالفعل في مساعدة رجال الشرطة في كثير من القضايا والحد من المخاطر التي تهدد المجتمعات.
غير أني سألتهم ما الإنجازات التي لمستموها كونكم تجاراً ورجال أعـمال من خلال ما رأيتموه من جهود الهيئات في حفـظ حقوق المسـلمـين وأعراضـهم؟ وكـيف تقـارنون بين ما تشاهدونه في بلاد الحرمين وبين غيرها من عدم الرقابة الشـرعيَّة والديـنيَّة في الأسـواق والـشوارع الـعامة؛ وذلك كأمر واقع؟
فالأستاذ زياد الرقيب تحدث قائلاً: كما تلاحظ فإن وجود الهيئة في الأسواق يحد من المعاكسات والمشاكل الأخلاقية في الأسواق وكذلك التبرج وغيره، واختتم جوابه بقوله: الحمد لله الذي حمى هذه البلاد بالإسلام.
أمَّا الأستاذ يوسف القفاري فقد أجاب بقوله: لا شك بأن للهيئات دوراً إيجابياً كبيراً فيما نحن عليه الآن وما نتميز به عن البلدان الأخرى في جوانب عديدة، أهمها: الحفاظ على أعراض الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا بالإضافة إلى أني أرى أن لهم دوراً كبيراً في تمسّكنا بعاداتنا وتقاليدنا المستمدة من شريعتنا الإسلامية والثبات عليها وعدم انجراف المجتمع نحو التبرج والسفور الذي تعرضه الفضائيات وتسوقه الثقافات الغربية.
• تطوير الهيئات مطلب ملحٌّ!
وجَّه الدكتور عبد العزيز الفوزان دعوة إلى رئاسة الهيئات بقوله: أدعو إخواني في رئاسة الهيئات إلى تكثيف البرامج التطويرية، والدورات التدريبية، لجميع أعضاء الهيئات في فن التعامل مع الناس، وأحكام وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعرفة الإجراءات والأنظمة المتعلقة بأهل الحسبة.
وبدورنا سألنا معالي الشيخ إبراهيم الغيث: هل هناك دورات متخصصة في كيفية التعامل مع الجمهور؟ وما دور الرئاسة في الرفع من مستوى منسوبيها الميدانيين؟
فأجابنا بقوله: الرئاسة العامة تعنى بتوجيه العاملين في الميدان وتنمية مهاراتهم في التعامل مع المخالفين، ولدينا دورات متخصصة في كيفية التعامل مع الجمهور والآلية المثلى للتعامل مع المخالف، وقد لمسنا المردود الإيجابي لهذه الدورات في سير العمل الميداني وانتظامه وفاعليته.
ثمَّ ذكر معالي الشيخ إبراهيم الغيث بعضاً من الدورات التي تقيمها الرئاسة، ومنها:
1 ـ دورة الحسبة والعلاقات الإنسانية: وتركز على التعامل مع الجمهور وطرق ذلك ووسائله وكل ما استجد في هذا العلم، وهي دورة تستهدف حملة الشهادة الجامعية، ومدتها أربعة أسابيع؛ نظري وميداني، وتقام الدورات بشكل دوري في جميع فروع الرئاسة.
2 ـ الدورة التأهيلية للمستجدين: وتستهدف المعيَّنين الجدد، إذ لا يمكن مباشرتهم العمل الميداني إلا بعد أخذ هذه الدورة، والتدريب الميداني مع بقية الأعضاء، وهذه الدورة تقدم للمشاركين فيها المواد المتعلقة بأحكام الحسبة وأنظمتها في المملكة، وكذلك تاريخ الحسبة في الإسلام وصفات المحتسب والقواعد الشرعية في الاحتساب، وكذلك كيفية كتابة التقارير وغيرها من الأمور الميدانية والإدارية.
3 ـ الدورة التوجيهية: وهي دورة علمية يستفيد منها كافة منسوبي الرئاسة العاملين في الميدان، وتشتمل على موضوعات مختلفة، منها: احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقه إنكار المنكر، كما تحوي بعض اللقاءات المفتوحة مع بعض المسؤولين في الدوائر الحكومية ذات العلاقة من ناحية طبيعة عملها بطبيعة عمل الهيئة وذلك من منطلق التعاون وتبادل الخبرات مع إمارات المناطق والشرط وبقية أجهزة الدولة.
4 ـ دورات التميز: وقد خصصت هذه الدورات للأعضاء المتميزين، ومن هم في مراتب قيادية في الميدان، ومدتها خمسة أيام، يشارك فيها بعض المسؤولين من القطاعات الحكومية والمتميزين من منسوبي الجهاز. وهناك دورات من قِبَل معهد الإدارة العامة وكذلك من قِبَل المعهد العالي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجامعة أم القرى وبعض المعاهد المتخصصة الأخرى.
• هل الحسبة تتصادم مع الحريَّة الشخصيَّة؟
يزعم بعضهم أنَّ الحسبة تتنافى مع الحريَّة الشخصيَّة، ومع حقوق الإنسان، ولهذا حاولنا أن نسأل هذا السؤال المشـروع، فالدكتـور السـهلي يقـول: الحرية في الإسلام هـو ما يعـرف بالمـباح، وهـذا لا يمـكن لأحـد أن يعـتـرض علـيـه، أو يتصادم معه لا الهيئة ولا غيرها، أما مفهوم الحرية عند المذاهـب المخالفة للإسـلام فمفاهيم متضادة منحرفة، فأيها المقصود؟ فمن أحب الكفر زعم أنه الحرية! ومن أحب الانحـراف الخلقي زعم أنه الحرية! وهذه مفاهيم باطلة، كما أن تلك المذاهب باطلة.
ومن ناحيته يشرح الدكتور عبد العزيز الفوزان سبب معارضة بعضهم لوجود الهيئات بأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه معارضة لرغبات أهل الأهواء وإراداتهم الفاسدة، ولهذا فهم يرون أنَّ عملهم من باب التدخل في خصوصيات الآخرين، وكبت حرياتهم، ومنعهم من ممارسة رغباتهم، ويجهل هؤلاء أو يتجاهلون أن المجتمع لحمة واحدة، وبناء واحد، يتأثر بعضه ببعض، ويكمل بعضه بعضاً، وكل فرد فيه عبارة عن لبنة في هذا البناء، يتأثر به ويؤثر فيه، وأن الإضرار بالمصالح العامة والاعتداء على مصالح الآخرين وإشاعة الفساد؛ هو خرق سفينة المجتمع بمعاول الهدم والتخريب، وليس من الحرية الشخصية في شيء، وليس ضرر من يفعل ذلك مقصوراً عليه، بل هو سبب لغرق السفينة، وهلاك الجميع.
ودفع الظلم وتحقيق العدل من أعظم دعامات حقوق الإنسان، لا سيما إذا تم ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، فإذا أمكن إنكار المنكر عن طريق الملاينة والحكمة كان هذا هو المطلوب، فلا تستعمل اليد إذا أمكن تغيير المنكر باللسان، ولا يستعمل التعنيف إذا أمكن تغيير المنكر بالتعريف والنصح اللطيف، قال الله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، واستعمال الأسلوب المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، فإذا كان الموقف يقتضي اللين فلا تُستعمل الشدة، وإذا كان يقتضي الشدة فلا يُستعمل اللين.
• الهيئات والإعلام التوعوي:
لا شك أن الإعلام له دوره المأمول في خدمة قضايا المجتمع وكشف همومه وإيصال الصورة الصحيحة.
وعن هذه الخصوص تقدَّمت بسؤال للدكتور السهلي فقلت له: هل هناك أعمال إعلامية للهيئة لتوعية المجتمع المسلم بالأخلاق الفاضلة والقيم الحميدة؟
فأجاب فضيلته: هناك برامج إعلامية للرئاسة لتوعية المجتمع، منها على سبيل المثال: خلال العام المالي 1425/1426هـ أقيم خمسون مركزاً توجيهياً، و (741) ندوة، و (2756) محاضرة، و (21.517) كلمة. وفي العام المالي 1423/1424 أقيم (16) معرضاً إعلامياً. هذه جهود ضخمة اختصرت في أرقام جامدة، كان ينبغي على وسائل الإعلام بيان أهداف هذه الأعمال، وآثارها الإيجابيَّة.
ولكن للأسف فإن بعض وسائل إعلام المسلمين لا تلتفت إلى هذه الجهود للتعريف بها، بل هي مشغولة عن هذه البرامج بأخبار فنانات الغرب؛ فلانة حملت سفاحاً، وأخرى دخلت مصـحة للعلاج من المخدرات وغير ذلك دون تعقيب أو إنكار لهذه الأعمال.
ويزيد الموضوع وضوحاً بحديث معالي الشيخ إبراهيم الغيث حيث يقول: نحن كغيرنا من الأجهزة الحكومية نتعاطى مع الإعلام لإيضاح دورنا وأهدافنا ورسالتنا وهي الحفاظ على الدين والعقيدة والأخلاق والآداب المرعية، ومن هنا كان لا بد من تعريف الناس بهذا الجهاز وبالأهداف التي أنشئ من أجلها. والرئاسة لها عناية بالإعلام بجميع وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة حيث أولت هذا الجانب جل عنايتها، فلديها إدارة للعلاقات العامة والإعلام تشرف على الجوانب الإعلامية، ولها مشاركات إعلامية وصحفية؛ فهناك مجلة الحسبة، وكذلك صفحة الرسالة الأسبوعية بجريدة الجزيرة في كل جمعة، ناهيكَ عن إصدارها بشكل يومي كلَّ أخبار الرئاسة وفروعها وإرسال تلك الأخبار إلى وكالة الأنباء السعودية وجميع الصحف، كما أن لها دوراً في التواصل مع الإعلام بشتى أنواعه عبر الحوارات والندوات والمداخلات المرئية والمسموعة وبخاصة التلفزيون السعودي والإذاعة السعودية وإذاعة القرآن الكريم وغيرها.
• خطط تطويريَّة مستقبليَّة:
لكلِّ عمل حكومي أهدافه، ولكل مركز حكومي خطط تطويريَّة يشهدها أو يخطِّط لها في مستقبله. والأجهزة الحكـوميـَّة بمخـتـلف مستوياتـها تشـهد نقـلة تطـويـريَّة، فما الخطط التطويريَّة التي تشهدها الهيئة عموماً؟
يرى معالي الشيخ إبراهيم الغيث أنَّ الهيئة تولي اهتماماً كبيراً لعموم الجوانب التطويرية للرقي بالعمل الميداني والإداري في الهيئة، وقد تم القيام بعدد من الدراسات ووضع خطط للتطوير والتدريب وخاصة في جانب العمل الميداني، وأيضاً فقد تم وضع خطة لتقنية المعلومات في الهيئة يتم تنفيذ المرحلة الثانية منها حالياً والتي تهدف إلى ميكنة الإجراءات الإدارية بالرئاسة، كما تم مؤخراً إنشاء مركز للبحوث والدراسات بالرئاسة ليتكامل مع الإدارة العامة للتطوير الإداري في تطوير الخطط المعمول بها وإعداد خطط جديدة. والرئاسة حالياً بصدد وضع منهاج تطوير إستراتيجية شاملة لتطوير العمل في الهيئة، وهناك تواصل وتعامل مستمر مع مراكز استشارية متخصصة ومستشارين أكفاء لبحث وإعداد وتنفيذ الخطط التطويرية وفق الإمكانيات المتاحة.
وعن هذا التطوير يحدِّثنا كذلك الدكتور عبدالله السهلي بأنَّ الرئاسة العامة للهيئات تشهد كل عام خططاً تطويرية كثيرة، آخرها المؤتمر الذي عقده مركز البحوث والدراسات في الرئاسة عن برامجه العلمية في تطوير الرئاسة، وتمثلت في خمس دراسات مهمة جداً، منها: دراسة عن وقوعات الرئاسة، ودراسة لتطوير العمل الميداني، ودراسة عن المشكلات الميدانية، ودراسة عن جهود الرئاسة في محاربة العنف. وفي هذا العام أعلن المركز عن رغبته في إجراء عدة بحـوث؛ مـنها ما يتعلق بالميدان ومنها ما يتعلق بالمشكلات الاجتـماعـية، ولكن للأسف فإن كثـيراً من هذه الأنشطة لا تحظى بتغطيات إعلامية مناسـبة، أو يـتم تجـاهـلها من قِبَل بعض وسائل الإعلام التي لا يهمها سوى نشر أي نقد للهيئات، علماً أن مركز البحوث والدراسات بالرئاسة عمره ما يقارب السنتين فقط.
• تطلُّعات مستقبليَّة للرقي بمستوى الهيئات:
حاولنا أن نسأل في هذا المحور عدداً من رجال الأعمال، وشخصيات من عموم المجتمع عن التطلُّعات المستقبليَّة التي يودون أن يروها على أرض الواقع لهذا الجهاز؟
فالأستاذ يوسف القفاري يتمنى من أعماق قلبه ـ كما يقول ـ أن يكثف الجهاز من برامجه التوعوية والثقافية وإبراز دوره إعلامياً، ويضيف: كما أتمنى من المسؤولين عن الجهاز أن يركزوا على استقطاب الكفاءات المؤهلة وأن يبذلوا جهداً أكبر في تدريبهم وتطويرهم؛ لعكس هوية موحدة للجهاز لا تتفاوت بين منطقة وأخرى أو بين فرع وآخر أو بين فرد وآخر. هذا بالإضافة إلى أني أتطلع إلى أن أرى جهازاً خدمياً يسهم في تنظيم الفعاليات والأنشطة الاجتماعية التي آمل أن تسهم في تذويب الحواجز الاجتماعية بين الجهاز وأفراد المجتمع وتقود إلى صنع ترابط وثيق بين الجهاز ومؤسسات الدولة الأمنية الأخرى.
أمَّا الأستاذ زياد الرقيب فيقول: أتمنى الدعم لهذا القطاع وكذلك تطويره، وأن يتم التركيز على توظيف المتعلمين الذيـن يكون أسلوبـهـم حسـناً حـتى مع المخطئين؛ لأن هذا ما حثنا ديننا عليه من النصح والإرشاد بالمعروف واللين، وليس بالشدة، وأن يتمتعوا بالقدرة على الحوار والإقناع، وأن يتم تحديد المهام التي توكل إلى الجهاز بشكل عام.
كما تحدَّث إلينا الكاتب الإسلامي محمد معافي ـ يمني الجنسيَّة ـ بأنَّه يتمنَّى أن يكون لهذه الهيئات انتشار أوسع، وأن تكون لهم صلاحيات أكبر، ونتمنى أن نرى جهاز الهيئة في كل دولة عربية؛ لما لها من آثار إيجابيَّة معروفة.
ويتـطـلَّع الباحـث فـي عـلوم الحديـث مـعن حسـين نعـناع ـ سوري الجنسية ـ إلى أهميَّة زيادة أداء دور الهيئات، مع التنبـيه على ضـرورة أن يـأخـذ رجـال الحـسبة الناس باليقين لا الظن؛ لأنَّ هذا كان منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند القبض على الجناة، وكذا منهج الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
أمَّا محمد بن سعيد ـ من السعودية ـ فيقول: أتمنَّى أن تُعطى لأفراد الهيئات الصلاحيَّة التامَّة لمراقبة الغش التجاري الواقع في الأسواق والمتاجر ليستكملوا دور الحسبة، ويكون بذلك ردع لأولئك الغشاشين، ويضيف قائلاً: أعتقد أنَّ هذا ليس صعباً إذا كان هناك تعاون بين وزارة التجارة والرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمَّا محمد الخطيب ـ من فلسطين ـ فيرى أهميَّة التأكيد على رعاية أهل الهيئات لحقوق المرأة وصيانة أعراضها، وخصـوصاً في ظـل الفساد الجارف في هذه الأزمان، حتى لا تطالها أيدي الذئاب البشريَّة.
بهذا الجواب يقف بنا المطاف في الحديث عن الجهود المبذولة من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سبيـل الإصلاح والتغيـير قدر الجـهد والمستطاع، ونسأل الله لهم التوفيق والسداد، والله ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.


نظرات في العمل الاحتسابي   
  د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

إن من مناقب الأمة المسلمة التي نالت بها قصب السبق على سائر الأمم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما شهد الله لها بذلك بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل عمران: 110].
وظلت هذه الخاصية على مرِّ القرون عصمةً وأَمَنَةً للأمة، تحفظها بحفظ الله من الزيغ والانحراف، وتردها إلى جادة الحق وتهديها إلى سواء الصراط. وقيَّض الله لهذه المهمة عبر القرون أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض بشِقَّيه النظري والعملي، أو الشبهات والشهوات، وحبب إليهم هذه الخصلة من خصال الإيمان واستعملهم فيها؛ فترى وجوههم ممعرةً ونفوسهم جياشة حين تُنتَهك حرمات الله، يغضبون لها أشدَّ من غضبهم لأنفسهم. ولَعمرُ الله! إن هذا لهو التدين الحق وعين الصدق، وأوثق عرى الإيمان.
والمشتغلون في هذا الباب يقفون على خط المواجهة الساخن أمام خصوم هذه الأمة الساعين لاستزلالها عن سبيل الله، في حين يقف كثير من الدعاة وطلبة العلم والعبَّاد والمحسنين في خطوط خلفية، أقل توتراً ومعاناة.
ويلقى أهل الحسبة في ذات الله من الأذى والعنت المادي والمعنوي والبدني والاجتماعي أمراً عظيماً، وذلك من ضرورات الوظيفة ولوازمها، كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] ، غير أن ذلك لا يثنيهم ولا يصدهم، وقد ذاقوا حلاوته ورأوا ثماره. فلله درُّهم، ما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم!
والآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الحافظون لحدود الله، بشر كسائر البشر؛ يعتريهم ما يعتري البشر من قصورٍ وتقصير ما يعتري بقية أطباق الأمة من حكام وعلماء وقضاة ودعاة ومفتين ومربين، من نوازل يقابلونها باجتهادٍ مصيب، وآخر دون ذلك، غير أنهم في جميع الأحوال يأوون إلى ركن شديد ومَهْيَعٍ رشيد، وهو نشدان الحق والعمل به، وتعظيم النصوص والخضوع لها، والانعتاق من أسْرِ التعصب والتقليد؛ كما وصف ابن القيم ـ رحمه الله ـ أسلافهم الناصحين للأمة من التابعين قائلاً: «ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه. إذا بدا لهم الدليل بأُخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عمَّا قال برهاناً. ونصوصه أجلّ في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدِّموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضـوهـا بــرأي أو قياس»[1].
وهذه نظرات متأملٍ مقصِّرٍ في هذا الباب، وخفقات مشفقٍ على صفوة الأصحاب، وتنبيهات وملاحظات وأسباب، أسوقها للقائمين بحدود الله تجاه الواقعين فيها، في زمن اشتد فيه الكرب وحمي الوطيس بين الممسِّكين بالكتاب والمتفلتين منه، مثبِّتاً مسدِّداً إن كان في القول خير، وإن كانت الأخرى فمِِنِّي ومن الشيطان، والله المستعان وعليه التكلان.
أولاً: تحرير المسألة وإنعام النظر فيها من الناحية الشرعية، والتحقق من كون الأمر منكراً في نظر الشارع؛ بإعمال الأدلة وإقامة الحجة على نكارته بالحق والميـزان، وألا يكون الإنكار صادراً عن دهشة الجديد ومخالفة الإلف، وألا يكون المنكر متعلقاً بوصف تابع فينكر الجميع مع إمكان إزالة التابع وإبقاء الأصل. ومردُّ ذلك إلى أولي العلـم، كـما قـال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
ثانياً: إدراك الحــال إدراكــــاً صحيحــاً، دون تجـــــاوز أو قصور، ومعرفة أطرافها دون تعدٍّ أو شطط. وأصل ذلك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. كثيــراً ما يـقـع خطـــأ بشــري والتبــاس غيـــر مقصـود، أو يسبق إلى الذهن معنى أو تصور غير صحيح في نقل اسم أو تصوير حادثة، أو يختلط الوصف بالتحليل فيفضي إلى نتائج خاطئة. لا بد من التدرب على الأناة والتثبت، وعدم حسبان ذلك تثبيطاً أو تقاعساً؛ فلأََنْ يخطئ الإنسان في التبرئة خير من أن يخطئ في التجريم.
ثالثاً: الأناة والصدور عن رأي حرٍ رشيد لا يحمل عليه عاطـفة جامحـة، أو لومـة لائم، أو دفع دافع، ثمَّ مقامان لا بد من شهودهما: معرفة حكم الله في واقعة معينة، وإمكان إجراء الحكم فيها. وقد يقع في بعض المواقف نوعٌ من (الاستركاض) من قِبَلِ بعض الغيوريـن، لا يتيح للسامع إلا أن يجري في المضمار مع الراكضين، دون تبصُّر مستقل وصدور عن موقف مسؤول، وربما يُمارَس نوعٌ من (الإرهاب الفكري) بإخراج مازح أو إيحاءٍ بالإقصاء. وينبغي ألا يصد أيٌّ من ذلك المخلصَ أن يستبصر لنفسه ولإخوانه؛ فربما دفع الله بأناته شراً كثيراً.
رابعاً: السعي للمنع والدفع، وإلا فالتخفيف والرفع. هكـذا جـرت سُنَّـة اللـه أن يبـلوَ بعـض عبـاده ببـعض، وما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وحنانيك! بعض الشر أهون من بعض، والزمن جزء من الحل؛ فاصبر إن العاقبة للتقوى. وتأمل في قول شعيب ـ عليه السلام ـ: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فإنه يـدل علـى نسبـية فـي العمــل: (ما استطعت)، ورضى مسبق بالقدر بعد استيفاء الأسباب.
إن المطالب المثالية والحلول الجذرية توجد في الأذهــان ولا توجد في الأعيان. وغياب هذا المعنى ربما أدى بصاحبه إلى إحدى خاتمتين: الانفجار أو الإحباط.
خامساً: عدم دفع المفسدة بأعظم منها، والتبصر في عواقب الأمور ومآلاتها، وحسن تقدير المصالح والمفاسد؛ فقد يغضُّ الفقيه طرفه عن منكر أصغر التماساً لدفع منكر أكبر، وشواهد ذلك من السنة المطهرة وطريقة السلف معروفة مشهورة.
سادساً: الحذر من القياس الفاسد؛ بإلحاق فرعٍ بأصل لا يشترك معه في العلة. ومما يقع كثيراً أن يُستشهد بموقف لفلان أو علاَّن من أهل العلم والإمامة في الدين، على موقف غير مطابق من بعــض الوجــوه. فلا بد من التنبه لصور الاتفاق والافتراق.
سابعاً: الوقوف عند الحدود الفاصلة بين الاحتساب والخروج، ومراعاة أصول أهل السنة والجماعة في لزوم الجماعة واحتمال الأذى والصبر على المكــاره، قــال ابــن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة اثنتين ومئتين، إبَّان خلافة المأمون العباسي: (وفيها ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع، فسجنه.
وذلك أن التف عليه جماعة من الناس يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن كانوا قد جاوزوا الحد، وأنكروا على السلطان، ودعوا إلى القيام بالكتاب والسنة، وصار باب داره كأنه باب دار السلطان؛ عليه السلاح والرجال، وغير ذلك من أبَّهة الملك، فقاتله الجند فكسروا أصحابه، فألقى السلاح، وصار بين النساء والنظَّارة، ثم اختفى في بعض الدور فأُخِذَ وجيء به إلى إبراهيم فسجنه سنةً كاملة)[2]. ونلحظ في نفَس ابن كثير انتقاداً لهذه الفئة المحتسبة، لا من جهة بواعثها ومطالبها، ولكن من جهة أدائها وتجاوزها.
وينبغي في هذا المقام التمييز بين المنكر المتعلق بالأحكام السلطانية، من إقامة حدود أو تعزير أو بسط يد، والمنكر الذي يتعين تغييره على أفراد الناس.
ثامناً: إبقـاء خطـوط التـواصل مفتوحة مع أولي الأمر، وعـدم التـصـعيد الذي يـورث القطـيـعـة والضغيـنة، ويمنـع التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثـم والعدوان مستقبلاً. وليـس من صالح الأمة أن تصل إلى مرحلة (الأزمة) بحـيث تبدو السـبل موصدة، والأنفاس محبوسة، والموقــف قـابــلاً للانفجـار، لا بد من قدر من المراوحة والأريحية حتى تنفرج الأزمة، وإن كان ببعض التنازلات. إن الأجواء المتوترة المأزومة تتيح المجال للاجتهادات الخرقاء، وتُخرج القضية من أيدي العقلاء، وتجعلهم في موقع الانسياق والاضطرار بعد أن كانوا في موقع التوجيه والاختيار.
تاسعاً: التحرر من الخطاب العاطفي التهييجي الذي يغشى البصر ويشوش البصيرة، وعدم تسويق الإشاعات والبلاغات والإشارات الغامضة، والترفع عن اللمز والاستفزاز بغرض حشد التأييد وتكثير المواقف.
عاشراً: التحرز من إطلاق ألقاب السوء على المخالف جزافاً، من جنس: (علماني)، (فاسق)، (خبيث) ونحوها، فضلاً عن التكفير بلا بينة. وهذا المسلك، فوق ما فيه من إثم وحوبة إذا كان بغير حق، فإنه يستعدي المخالف، ويكسبه تعاطف بعض الناس في كثير من الأحوال.
حادي عشر: مراعاة تفاوت المحتسبين في المدارك والعواطف، والحذر من بعض الإطلاقات والتحريضات التي تحدث انفعالات لا تنضبط عند كل أحد.
ثاني عشر: التعاذر وإحسان الظن عند اختلاف النظر بين المصلحين، وعدم حمل الآخرين على رأي واحد في المسائل الاجتهادية وجفاء المخالف واستحداث الضغائن. ولم يزل العلماء يختلفون في المسألة الواحدة لأسباب شتى ويتعاذرون في ذلك مع وجود الأدلة النصية؛ فكيف بالمحتسبين في مسائل اجتهادية طارئة! فلا بد من سعة الأفـق، ورحـابة الصــدر، واحتمال الخلاف؛ حتى لا تعود المفسدة الناشئة عن الخلاف أشد من المفسدة المختلف في تقديرها.
ثالث عشر: التكامل بين العاملين للدين؛ من علماء ودعاة ومحتسبين، وأن تجتهد كل طائفة فيما أقامها الله فيه، دون حطِّ أو إزراء على غيرها فيما قصرت عنه. وهكذا جرت سُنَّة الله في خلقه؛ ألا يساق الناس مساقاً واحداً؛ فقد فاوت بينهم في الأخلاق كما فاوت بينهم في الأرزاق.
رابع عشر: عدم قطع طريق الرجعة على أهل المنكر وعدم إلجائهم إلى العناد وأن تأخذهم العزة بالإثم؛ بسبب حصرهم في زوايا ضيقة، لا يجدون لأنفسهم مخرجاً كريماً وتحلحلاً سائغاً مما أخطؤوا فيه.
خامس عشر: العناية بالبحث العلمي والدراسات التطبيقية الواعية، وتأسيس المراكز المتخصصة لدراسة المنكرات المستوطنة والظاهرات النشاز في المجتمع وتحديد أسبابها، وتقديم الحلول العملية لاجتثاثها، أو التخفيف منها، وفق آليات البحث العلمي الحديث. ولا يسوغ بحال أن تبقى قضية إنكار المنكر ردود أفعال وحالة طوارئ واستنفار، لا يتم التعاطي معها حتى تضع جرانها؛ فينشأ ما يشبه حالة (تسونامي) في صفوف الغيورين لا يخلو من خسائر وأضرار.
إن التنبه المبكر للمنكرات الوافدة والعلاج المطمئن لها يحتاج إلى توفر الدرس، والبحث، والتمحيص. وليس كثيراً أن توجد مؤسسات خاصة للعناية بهذه المخاطر كما توجد مثيلاتها من المؤسسات الصحية؛ فالوقاية خير من العلاج.
هذا، والله المسؤول أن يبرم لهذه الأمة أمر خير، يُعزُّ فيه أهل طاعته ويُذلُّ فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. وصلى الله على محمد، وعلى آله وسلم.


احتساب النبي "صلى الله عليه و سلم"
إبراهيم بن محمد الحقيل

أرسل الله ـ تعـالى ـ رســوله محمــداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالهدى ودين الحق؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الجور إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن الإساءة إلى الإحسان، ومن دركات الإثم والشر والذل والضعف إلى درجات البر والخير والعز والقوة، قال الله ـ تعالى ـ : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: ٤٦١]، وقال ـ سبحانه ـ: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [الطلاق: ١١].
وكانت رسالته ـ عليه الصلاة والسلام ـ كرسالات مَنْ سبقوه من إخوانه المرسلين متضمّنة الأمر والنهي: الأمر بكل معروف يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأفعال والمقاصد، والنهي عن كل منكر يبغضه الله ـ تعالى ـ من الأقوال والأفعال والمقاصد.
 كيف؟ وأول وصف عرفه به أهلُ الكتاب هو وصف الحسبة، وقيامه بها، كما هو مذكور في كتبــهم، قــال الله ـ تعالى ـ : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ٧٥١] .
 والمشركون كانوا يعرفون أن كلمة التوحيد ـ وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ تعني: الخضوع والتسليم والانقياد للأمر والنهي الشرعيين؛ ولذلك عارضوها وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥] .
وسيرة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ منذ بعثته وحتى وفاته تدل على أن حياته كلها كانت احتساباً على الناس؛ لإصلاح عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، كما تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الركن الأساس لتبليغ هذا الدين، والحكم بشريعته بين الناس، وقد أُمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالبلاغ في كثير من آي القرآن؛ كقوله ـ تعالى ـ : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: ٧٦] وفي آية أخرى: {فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ} [النحل: ٢٨] .
 وما الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ التي بعث بها النبـي - صلى الله عليه وسلم - إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر؛ لأن المباحات لا أمر فيها ولا نهي، بل سُكت عنها تخفيفاً على العباد.
 وما الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ الذي هو ذروة سنام الإسلام إلا وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لبسط سلطان الإسلام الذي جاء بالعدل ورفع الظلم على الناس، وتخليصهم من أنظمة الجور والظلم والعبودية لغير الله ـ تعالى ـ.
وإذا تقرر ذلك فإن الحديث عن احتساب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو الحديث عن سيرته وأقواله وأفعاله منذ أن بعثه الله ـ تعالى ـ رسولاً للعالمين إلى أن قبضه إليه ـ سبحانه وتعالى ـ، وأنَّى لمقال أو كتاب أن يحوي ذلك كله، ويأتي على جمله وعناوينه بلْهَ دقائقه وتفاصيله؟!
هذا إذا تناولنا الحسبة بمفهومها العام، وأما الحسبة بمفهوم أخص فهي لا تكون ابتداء كالدعوة إلى الله تعالى، وإنما تكون حيث عُطِّل أمر، أو ارتكب نهي، على ما عرفها به الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال: الحسبة هي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أُظهر فعله[1].
وهذا أيضاً كثير جداً في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشامل لجوانب كثيرة من العبادات والمعاملات والأخلاق والسياسة والاقتصاد والأسرة وغير ذلك، وجمع الأمثلة فيه يتحصل منه كتاب ضخم.
وحسبي في هذه المقالة دلالة القارئ على بعض العناوين في احتساب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وضرب بعض الأمثلة عليها من سنته عليه الصلاة والسلام:
تقرير الحسبة بأقواله عليه الصلاة والسلام:
كثرت أقوال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الأمر بالحسبة، والتحذير من تركها أو التهاون بها؛ بوصفها شعيرة من شعائر الدين. ويمكن تقسيم ما جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أقوال في الحسبة إلى ما يلي:
 أولاً: الأمر بإنكار المنكر، وبيان أن مـن أنكـر فقـد أدَّى ما عليه، وذلـك فـي مثـل: حديـث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «من رأى منكراً فغيَّره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيِّره بيده فغيَّره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيِّره بلسانه فغيَّره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان»[2].
 ثانياً: البيعة على قول الحق، والوصية بذلك.
 أما البيعة ففي حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»[3]، والصدعُ بالحق إما أن يكون في معروف عُطِّل، أو في منكر أُظهر.
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ : قوله «وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان؛ الكبار والصغار لا نداهن فيه أحداً، ولا نخافه هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية فإن خاف من ذلك عـلى نفسه أو ماله أو على غيره سقط الإنكار بيده ولسانه ووجبت كراهته بقلبه. اهـ[4].
وأما الوصية به فقد جاءت في حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بخصال من الخير... وذكر منها: وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرّاً»[5].
 ومعلوم أن البيعة لا تكون إلا على الأمر العظيم الكبير، وكذا الوصية لا تكون إلا بما هو مهم، وهذا يدل على مكانة قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الله تعالى؛ إذ وصَّى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ به، وبايعه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عليه.
 وكانت هذه البيعة مع البيعة على السمـع والطاعـة مما ينقض رأي من يرى أن الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خروج على السلاطين، أو يؤدي إلى الخروج عليهم، ولازم هذا القول: تعطيل هذه الشعيرة العظيمة، وهذا الحديث ينقض هذا الرأي الفــاسد، بل إن الاحتســاب على السلطان، والصدع بالحق أمامه مما ينفعه؛ لئلا يتــرك مـعروفــاً، أو يتمادى في منكر، وهذا من أعظم النصح له المأمور به في حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»[6].
ومن أعظم الغشِّ له ترك مناصحته، والصدع بالحق أمامه، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.
 وقد فهم كبار العلماء في مختلف العصور ذلك فأنكروا على السلاطين مخالفاتهم، ولم يخرجوا عليهم، ولا رأوا أن الإنكار يؤدي إلى الخروج كما يزعمه من يعطلون الأمر والنهي الشرعيين، ولا جعلوا ظهور المنكرات مسوغاً للخروج. وكان سفيان الثوري من أشهر أهل عصره في شدة الإنكار على بني العباس، حتى إنه ليبول الدم إذا رأى منكراً فلم يستطع إنكاره كما قال رحمه الله تعالى، ومع ذلك كان سيِّئ القول في الحسن بن صالح بن حي مع أن الحسن من الأئمة الكبار في العلم والزهد، وما سبب ذلك إلا لأن الحسن كان يرى الخروج، ولذا قال الثوري فيه: ذاك رجل يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -[7].
 ثالثاً: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيَّن أن قول الحق أعظم الجهاد، وأن سيد الشهداء من قتل في سبيل كلمة الحق، وهذا يدل على عظيم أمر الحسبة في دين الله تعالى، عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[8]. وعـن جابــر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»[9].
 رابعاً: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ضرب لهم مثلاً عظيماً بيَّن فيه ضرر المفسدين على المجتمع، ونفع المصلحين الذين يأخذون على أيديهم؛ ليبين للناس أهمية الحسبة في نجاتهم، فلا يتهاونوا بها، أو يقعدوا عن الأخذ على أيدي المفسدين والسفهاء منهم؛ لأن الهلاك إن وقع بسبب المفسدين فسيعمُّ الجميع، عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»[10].
 خامساً: بيَّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن العقاب والهلاك في ترك الحـسبة؛ كما في حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليــها فــزعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلَّق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخَبَث»[11].
 وفي حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»[12].
 وفي حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قوم يُعمَل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغي
روا عليهم ولا يغيِّروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا»
[13].
 سادساً: بيَّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من أسباب فساد القلب إلفَ المنكرات والتعوّدَ على مشاهدتها، وتركَ إنكارها، وذلك في حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكــوز مجخيـــاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه»[14].
 سابعاً: بيَّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الحسبة صدقة، وذلك في حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»[15].
 ثامناً: جعل ـ عليه الصلاة والسلام ـ من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والجلوسَ على الطرقات، فقالوا: ما لنا بدّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قـالوا: وما حق الطريق؟ قال: غضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»[16].
 ويلاحظ التنوع في أساليبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تقرير الحسبة وأنها من الدين، تارة بالأمر بها، والوصية بها، والبيعة عليها، وعدِّها في الصدقات، وبيان أنها من الجهاد، وأنها نجاة للمجتمع، وضرب الأمثلة على ذلك. وتارة في الترهيب من التفريط فيها، وما يترتب على تركها من فساد القلب، وحلول العقاب والهلاك.
غضبه إذا انتهكت حرمات الله تعالى:
 كان من هدي النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا رأى حرمة انتهكت أن يغضب لله تعالى، ولا يغضــب لنفسه إذا ما أُوذي هو أو انتقص حقه. وأكثر الناس لا يغضبون إذا رأوا حرمات الله ـ تعالى ـ تُنتهك، لكنهم يغضبون إن أهينوا، أو مُسَّت كرامتهم، أو انتقص شيء من دنياهم! فأين هم من هدي النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي كان يرضى في الله ـ تعالى ـ ويغضب فيه سبحانه، ولا يرضى لأجل الدنيا، ولا يغضب فيها. روت عائشة ـ رضي الله عنهــا ـ فقــالت: «ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها». وفي رواية عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتصراً من مظلمة ظُلِمَها قط ما لم يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهِك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً»[17].
وهذا منهج عام تحكيه عائشة ـ رضي الله عنهــا ـ عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وهي من أقرب الناس إليه، ومن أعلمهم بأحواله، وبما يرضيه وما يغضبه؛ صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم رأينا في سنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ تطبيقاً عملياً لهذا المنهج العظيم الذي حكته عائشة رضي الله عنها:
ففي جانب عدم انتصاره ـ عليه الصلاة والسلام ـ لنفسه نرى أنه يعفو ويصفح ويتحمل أذى المؤذين، وجهل الجاهلين، وقد يقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، وهذا كثير في سيرته عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما روى أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البُــرد مــن شــدة جبــذته، ثــم قــال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك ثم أمر له بعطاء»[18].
 ولكنه في الجانب الآخر يغضب لله ـ تعالى ـ إذا انتهكت محارمه فيعتريه غيرة شديدة، ويتغير حاله، ويتمعَّر وجهه في الله تبارك وتعالى، وكم قرأنا وسمعنا في أحاديث كثيرة وصفاً من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لغضب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا وقع منكر، ومن ذلك:
1 ـ تمعُّر وجهه، عليه الصلاة والسلام. ومن أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في وصف النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «فتمعَّر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -»، وفي بعضها: «فتمعَّر وجهه تمعّراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي»، وفي بعضها: «فتغيَّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، أو «عرفت في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكراهية»، وفي بعضها: «فتلوّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
 وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها: حديث زيد ابن خالد في سؤالهم عن ضالة الإبل[19]، وفي حديث أنس في سؤالهم عن جماع الحائض[20]، وحديث ابن مسعود في اعتراض رجل من الأنصار على قسمة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ[21]، وحديـث عــبد الله بن الزبيـر ـ رضي الله عنهما ـ في اعتراض الأنصاري على حكمه [22]، وحديث جرير ابن عبد الله لما رأى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما في المضريين من الفاقة[23]، وحديث عائشة في شفاعة أسامة للمرأة التي سرقت[24]، وحديث عائشة لما انتقصت خديجة ـ رضي الله عنهما ـ[25]، وحديث ابن مسعود لما رأى ـ عليه الصلاة والسلام ـ اختلافهم في القرآن[26].
2 ـ وربما حكى الصحابي غضب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووصف شدَّته، ومما جاء في ذلك: «فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -»، وفي بعضها: «فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ»، وفي بعضها: «فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط أشد غضباً في موعظة منه يومئذ»، وفي بعضها: «فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرف الغضب في وجهه»، وفي بعضها: «فغضب حتى احمرَّت وجنتاه، أو قال: احمرَّ وجهه».
 وجاء مثل ذلك في أحاديث كثيرة، منها: حديث أبي قتادة لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صومه[27]، وفيه أيضــاً: «فلمـا رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ غضبه قال: رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر ـ رضي الله عنه ـ يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه»، وحديث أبي مسعود في شكوى رجلٍ إمامَه لأنه يطيل بهم الفجر[28]، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في المفاضلة بينه وبين موسى عليه السلام[29]، وفـي حديـث علي ـ رضــي الله عنه ـ في لبسه حلة سيراء[30]، وحـديث عـبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ في لبسه ثوبين معصفرين[31].
3 ـ ولربما جثا الصحابي على ركبتيه لما يرى من غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى أن لا يرضى أبداً، أو أن يُعاجَلوا بعقوبة بسبب غضبه، فيستغفر ويتوب ويعتذر مما فعل، ومن ذلك حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ في اعتذار أبي بكر من عمر، وعدم قبول عمر اعتذاره، وغضب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على عمر، وفيه: «ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ مرتين فما أوذي بعدها» [32]. ومع أن الموقف كان في صالح أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إلا أنه تأثر كثيراً من شدة غضب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وخشـي أن لا يرضـى عن عمـر رضي الله عنه. وهذا يدل على ما كان بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من التوادّ والترفّع عن الانتقام وحظوظ النفس، ولو وقع بينهم خلاف.
4 ـ ولـربما بكـى الصحـابة ـ رضي الله عنهم ـ لما يرون من شـدة غضـب النبي ـ عليه الصـلاة والســـلام ـ، ومن ذلك: ما جاء في حديث أنس ـ رضـي الله عنه ـ: «سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه المسألة، فغضب فصعــد المنــبر فقال: لا تسألونني اليوم عن شيء إلا بيّنته لكم، فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لافٌ رأسه في ثوبه يبكي»، وفي رواية: «فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول: سلوني، .... ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فسكت»، وفي رواية: «قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أشد منه، قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين»[33].
أنواع إنكاره عليه الصلاة والسلام:
 تنوَّع إنكار النبــي ـ عليه الصــلاة والسلام ـ بحســـب ما يزيل المنكر، ويحقق المصلحة، ولا يخلف مفسدة أكبر، فكان هذا الفعل منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تشريعاً لأمته، ومن الأمثلة على إنكاره للمنكر:
أولاً: الإنكار باليد: وفي ذلك أمثلة كثيرة من سنته عليه الصلاة والسلام، منها:            
1 ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت قرام فيه صور فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مِنْ أشدِّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور»[34].
2 ـ حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بيده فتغيّظ، ثم قال: إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة»[35].
3 ـ حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده...»[36].
4 ـ حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: «أُهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير فلبسه فصلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له، وقال: لا ينبغي هذا للمتقين»[37].
 ويلاحظ في هذه الأحاديث جمعه ـ عليه الصـلاة والسلام ـ بين إزالة المنكر، والإنكار بالقول، وبيان سبب الإنكار لإفادة المحتسَب عليه وتعليمه.
ثانياً: الإنكار باللسان:
وهو كثير جداً في ســنته وسيــرته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويعزّ على الحصر، فكل ما نهى عنها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في سنته فهو إما نهــي عن المنــكر قبل وقوعــه، أو إنكار له بعد وقوعه، وقد تنوعت أساليبه في الإنكار باللسان، ومن ذلك:
1 ـ إنكاره على من وقع في المنكر، وفيه حديث عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسه»، وفي رواية قال: «رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل احرقهما»[38].
2 ـ الإغلاظ في الإنكار بتكرار القول، والشدة فيه، ومنه: حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ لما قتل من شهد شهادة الحق، وفيه قال أسامة ـ رضي الله عنه ـ: «فلما قدمنا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قــال: فـقال لـي: يا أسامة! أقتلــته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوذاً، قال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»، وفي رواية أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جعــل يكرر على أسامة ـ رضي الله عنه ـ: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»[39].
3 ـ وقد يخطب في النــاس منكــراً عليهــم ما رأى منهــم أو من بعضهم، ومن ذلك: حديث عائشة في قصة مكاتبة بريرة، وفيه: «فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة»[40].
 ومنه أيضاً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية»[41].
4 ـ وربما أعلن ـ عليه الصلاة والسلام ـ براءته من المنكر، ومن ذلك: حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لما قتل خالد ـ رضي الله عنه ـ الأسرى من بني جذيمة، وفيه قال ابن عمر: «حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ـ مرتين»[42].
5 ـ وربما وجَّه أصحابه إلى شدة الإنكار، ومن ذلك: حديث عُتَي بن ضمرة ـ رحمه الله تعالى ـ قال: «رأيت أُبَيّاً ـ رضي الله عنه ـ رأى رجلاً تعزى بعزاء الجاهلية فأَعضَّه ولم يَكْنِ، ثم قال: قد أرى في أنفسكم، إني لم أستطع إذا سمعتهــا أن لا أقولها، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا» [43]، وكذلك أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن يحثوا التراب في وجوه المداحين.
 وهو - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الإنكار باليد واللسان كان منكراً للمنكر بقلبه، بل لا ينفك عن إنكار القلب بحال.
 أما اقتصاره ـ عليه الصلاة والسلام ـ على الإنكار بالقلب دون اليد واللسان فلم أقف على قول لأحد في هذه المسـألة، ولا أعلم وقوع ذلك من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعدما أُمر أن يصدع بالحق، ويجهر بالدعوة، ولا أظنه يقتصر عليه فحسب؛ لما يلي:
1 ـ أن الاقتصار في الإنكار على إنكار القلب دون اليد واللسان أضعف الإيمان، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكمل الناس إيماناً.
2 ـ أن سبب الاقتصار على إنكار القلب الخوف على النفس أو المال؛ ولذا كان رخصة لمن عجز عن الإنكار باليد واللسان، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أشجع الناس وأكملهم إيماناً ويقيناً وثباتاً على الحق.
3 ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيَّن أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن من أعلى مقامات الشهداء من قتل في سبيل الله ـ تعالى ـ احتساباً على ظالم، وصدعاً بالحق أمامه، ولا يُظَن بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن ينزل عن هذه المرتبة.
4 ـ أن أنبياء قبله قُتلوا في كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم، فلا ينزل عمله عن عملهم. ولا أدل على ذلك من صدعه بالحق أمام كبار قريش وصناديد المشركين وشجعانهم حين قام خطيباً فيهم على الصفا يدعوهم إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك، وقد حاول المشركون قتله غير مرة بسبب احتسابه عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولكنّ الله ـ تعالى ـ نجَّاه منهم.
 ولا يشــكل على تقــرير ذلك أنه ـ عليــه الصلاة والسلام ـ ترك بعض المنكرات كأصنام المشركين قبل هجرته، وترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، والكف عن قتل المنافقين، والموافقة على بعض بنود صلح الحديبية، وردّ من جاء مؤمناً إلى المشركين، وأمثال ذلك؛ فإن عدم تغييره للمنكر في هذه الصور كان لمصلحة راجحـــة، ولم يكن خوفاً على نفسه أو ماله، وفرق بين الصورتين، ومراعاة المصالح والمفاسد في الأمر والنهي واجب على المحتسب؛ لئلا يفوت احتسابه مصلحة أعظم، أو يخلف مفسدة أكبر، علــى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنكر في بعض هذه الصور بلسانه.
مَنْ احتسب - صلى الله عليه وسلم - عليهم؟
 احتسب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على كل الناس: على القريب والبعيد، وعلى الرجال والنساء والأطفال؛ امتثالاً لأمر الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: ٨٢]، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: احتسابه على الرجال:
 وهذا كثير جداً في سنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد مضى كثير من الأمثلة على ذلك في إنكاره باليد واللسان، وسيأتي أمثلة في ذكر مجالات احتسابه عليه الصلاة والسلام.
 ثانياً: احتسابه على النساء:
 ومنه: أنه لما ضــرب عــدد من أزواجــه ـ رضي الله عنهن ـ أخبيتهن في المسجد للاعتكاف، وظن أنه ما حملهن على ذلك إلا الغيرة، وخاف عليهن الرياء، قال: «ما حملهن على هذا؟ آلبرّ؟ انزعوها فلا أراها، فنُزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال»[44].
 ويلاحظ في هذا الحديث تركه الاعتكاف في رمضان مع مداومته عليه؛ تغييراً لهذا المنكر الذي وقع من زوجـــاته ـ رضي الله عنهــن ـ ومنــه أيضــاً: غضبــه - صلى الله عليه وسلم - علــى عائشة لما تكلمت في خديجة ـ رضي الله عنهما ـ، وهتكه للقرام في منزل عائشة، واعتزاله لنسائه شهراً.
 ثالثاً: احتسابه على الأطفال:
 ومنه: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «أخذ الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كخ كخ! ليطرحها، ثم قال: أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟»[45].
 وكذلك حديث عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: يا غلام! سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكـُلْ مما يليك»[46].
مجالات احتسابه عليه الصلاة والسلام:
 من العسير حصر المجالات التي احتسب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على الناس فيها، فما من مجال في العقيدة أو العبادات أو المعاملات أو السلوك، وعلى مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعة إلا له فيه احتساب، إما أمر بمعروف عطِّل، أو فُعِل بطريقة خاطئة فيصحح ذلك، أو نهي عن منكر وقع. وما هذه المجالات التي أذكرها هنا إلا أمثلة يسيرة لمجالات أكثر، وأمثلة أغزر من سنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
أولاً: احتسابه في تصحيح العقائد:
 ومن ذلك: إنكاره على أصحابه ـ رضــي الله عنــهم ـ لما قالوا: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط»[47]. وإنكاره على المشركين شركهم في التلبية، فيقول منكراً عليهم: «ويلكم قد قد»[48]، ولما قالت امرأة تتغنى: «وفينا نبي يعلــم ما في غد» أنكر عليها وقال: «لا تقولي هكذا وقـولي ما كنت تقولين»[49]. ولما قال له رجل: «ما شاء الله وشئت» أنكر عليه وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أجعلتني والله عـــدلاً، بل ما شاء الله وحده»[50].
ثانياً: احتسابه في تصحيح العبادات:
 ومنه: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ رأى رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فقال: «ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى»[51]، وإنكاره على المسيء في صلاته ثم تعليمه الصلاة[52]، وإنكاره على من يواصلون في الصوم[53]، وأمره لمن أراد أن يحج عن شبرمة أن يحج عن نفسه أولاً[54].
ثالثاً: احتسابه في تصحيح المعاملات:
 ومنه: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على صبرة طعـــام فأدخــل يده فيها فــنالت أصابعه بللاً فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشَّ فليس مني»[55].
 ومنه: حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أنهــم كانــوا يُضْــرَبُون على عهــد رســول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاماً جزافاً أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤْووه إلى رحالهم»[56]، قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ : (هذا أصل في ضرب المحتسب أهل الأسواق إذا خالفوا الحكم الشرعي في مبايعاتهم ومعاملاتهم)[57].
رابعاً: احتسابه في إصلاح الأخلاق والسلوك والعادات:
 وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعثت لأتمِّم صالح الأخلاق»[58].
 ومنه: حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان الفضل رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر»[59].
 وجاء في روايــة أخــرى من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ: فقال العباس: «يا رسول الله! لِمَ لويت عنق! بن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما»[60].
 ومنه: حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان عندها وفي البيت مخنث، فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله لكم الطائف غداً أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخلن هذا عليكن»[61].
 ومنه: حديث المسور بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ قال: «أقبلت بحجر أحمله ثقيل وعليّ إزار خفيف، قال: فانحلَّ إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقـال رســول اللـه - صلى الله عليه وسلم -: ارجــع إلى ثوبـك فخـذه ولا تمشوا عراة»[62].
 ومنه: حديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ: «أن رجلاً أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال: كُلْ بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ! ما منعـــه إلا الــكِبْر، قــال: فما رفعها إلى فيه»[63].
 ومنه: تعليمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ للغلام كيف يأكل، وطرحه خاتم الذهب من أصبع من كان يلبسه.
خامساً: احتسابه في الإصلاح الأُسري:
ومنه: حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تضربُن إماء الله، فجاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! قد ذئر النساء على أزواجهن، فأمر بضربهن فضربن، فطاف بآل محمد - صلى الله عليه وسلم - طائف نساء كثير فلما أصبح قال: لقد طاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كل امرأة تشتكي زوجها فلا تجدون أولئك خياركم»[64].
 ففي هذا الحديث نهى عن ضرب النساء، ثم رخص فيه لتأديبهن لما أخبره عمر بتمرّدهن، فلما أسرف الرجال في ضرب النساء احتسب عليهم، وبيَّن أن من ضرب امرأته فليس من خيار الرجال، وكثرت وصاياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالنساء، ووصايا النساء بأزواجهن.
سادساً: احتسابه في تصحيح الفساد المالي والإداري والسياسي:
1 ـ ما يقع من ذلك داخل المجتمع المسلم:
 أ ـ كاحتسابه على عمّاله وولاته والموظفين في الدولة، ومــن أمثلة ذلك: حديث أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: «استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، قال: فهلَّا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده! لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاه تَيْعَرُ، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه اللهم! هل بلّغت؟ اللهم هل بلّغت؟ ثلاثاً». وفي بعض الروايات أنه خطبهم على المنبر يحذرهم ذلك[65].
 ومنه أيضاً: حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها»[66].
 ومنه: احتسابه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ لما سأله أكثر من مرة، وانتفاع حكيم ـ رضي الله عنه ـ بذلك[67]، وإنكاره لفعل خالد ـ رضي الله عنه ـ بأسرى بني جذيمة، وقد سبق إيراده.
 ب ـ وكذا احتسابه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في إقرار العدل، ورفع الظلم، وعدم محاباة أحد في حدود الله تعالى، وفيه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن قريشاً أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلّمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وَايْمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[68].
2 ـ أو وقع ذلك الفساد خارج المجتمع المسلم، فيحتسب محذراً المسلمين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم، ومنه: نهيه  ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن التشبّه بغير المسلمين؛ سواء في عقائدهم وعباداتهــم، أو فيما اختصوا به من عاداتهم وأخلاقهم.
ومنه أيضاً: حديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهــم، قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»[69]. وكان هذا الاحتساب والبيان منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سبباً في انتفاع أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك.
ومنه: احتسابه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على اليهود، وإقامة الحد الذي جاءت به التوراة في حق الزانيين، وأمره برجمهما.
 وبهذا يُعــلَم أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كــان لا يسكت إذا رأى معروفاً عُطِّل، أو وقع خطأ في فعله حتى يحتسب على صاحبه فيأمره به، أو يصحح له خطأه فيه. ولا يسكت عن منكر أُظهر حتى يحتسب على صاحبه بالقول أو الفعل أو بهما معاً، مع مراعاته ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمصالح والمفاسد في احتسابه على الناس، وهو قدوتنا في هذه الشعيرة العظيمة التي يريد الكفار والمنافقون وَأْدها، وتقرير مذهب المشركين في عدم الاحتساب على الناس، وتركهم أحراراً ينتهكون حرمات الله تعالى، ويجاهرون بذلك، ويقولون كما قال الله ـ تعالى ـ حكاية عن قوم شعيب ـ عليه السلام ـ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: ٧٨].
 فحريٌّ بكل مسلم أسلم وجهه لله تعالى، ورضي بدينه؛ أن لا يصغي للمفسدين في الأرض الداعين إلى تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحيي هذه الشعيرة في الناس كما أحياها الرسل ـ عليهم السلام ـ في أقوامهم، وكما أحياها خاتمهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مكة والمدينة، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:١٢]. وفي الآية الأخرى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: ٧] .

من أنـكر وجاهد بقلبه فهـــــــــو مؤمـــــن
محمد أحمد

الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة الغائبة والشعـيرة الكـبرى، والعـبادة المغبون فيها كثير من المسلمين، والعمل الصالح الذي غفل عنه جُل المصلين، الذي هو سبب لصلاح الدنيا والدين، وبتجاهله والتقصير فيه الهلاك المبين، والتواطؤ على تركه نذير شؤم على العالمين؛ حيث ينتج عنه العذاب المهين، وحجب دعاء الداعين، وهلاك الصالحين والطالحين، بحكم رسول رب العالمين، حيث يقول:
«والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»[1].
وعن أم المــؤمنين زيــنب بنــت جحــش ـ رضــي الله عنها ـ أن النبي دخل عليها وهو يقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»، وحلَّق بإصبعيه: الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: «نعم! إذا كثر الخَبَث»[2][3].

وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَنْ فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً»[4].
والمراد[5] بالقائم على حدود الله، وهي محارمه: المنكِر لها، القائم على دفعها وإزالتها، فعلى الرغم من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية؛ كالجهاد إذا لم يتعين، لكن إذا تواطأت الأمة كلها على ترك أي فرض من فروض الكفاية، كالأمر والنهي والجهاد، أثموا جميعاًً وعمَّهم العذاب، وتوالت عليهم النكبات، وتسلط عليهم الأعداء وتداعوا عليهم من كل جانب، كما هو حال المسلمين اليوم.
ومن فضل الله على هذه الأمة المرحومة أن الله رفع عنها كثيراً من الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، من ذلك عدم التكليف بما لا يطاق، لهذا قال رسولها الرؤوف الرحيم، والناصح الأمين: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»[6].
وقـال - صلى الله عليه وسلم - فيمـــا صـح عـنه عـن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون[7] وأصحاب يأخذون بسُنته، ويقتدون بأمره، ثـم إنهـا تخلف من بعدهـم خلوف[8]، يقـولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن؛ ومن جاهدهم[9] بلسانه فهو مؤمن؛ ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»[10].
غير أن قطاعاً من المسلمين لم تسعه هذه الرحمة الواسعة، ولم تشمله هذه النعمة الفاضلة، فقصَّر حتى في أضعف درجات الإيمان، وأمسى وأصبح وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فهو من أموات الأحياء، ومن المنتكسين التعساء.
وبعضهم الآخر لم يحقق هذه الدرجة الدنيا كما ينبغي، وإن تلبّس بها بعض التلبس؛ حيث لم يفِ بشروطها، ولم يتجنب نواقضها ومفسداتها، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى هناك فئة من المسلمين الغيورين، والشباب المتحمسين، لم يقنعوا بهذه الدرجة، بل منهم من لم يعدها شيئاً إيجابياً يرفع الحرج، هذا على الرغم من عدم استطاعته وقدرته على المرتبتين الفاضلتين: مرتبة اللسان واليد.
لم يكتفِ بعضهم بهذا، بل أخذ يثرِّب على الآخرين إن بلسان الحال أو المقال، وربما ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إلى هجر ومقاطعة من قنع بذلك، وخير الأمور أوسطها.
فما شروط صحة الإنكار بالقلب؟ وهل هو رافع للحرج؟ وهل يعتبر أمراً إيجابياً أم سلبياً؟ هذا ما نود الإشارة إليه في إيجاز، فنقول وبالله التوفيق:
• من لم ينكر بقلبه فقد سُلِبَ الإيمان:
مما لا شك فيه أنه لا يحل لأحد أن يدع الإنكار باليد وهو قادر على ذلك؛ فإن عجز عنه وجب عليه الإنكار باللسان؛ فإن لم يقوَ عليه وجب عليه وجوباً عينياً الإنكار بالقلب؛ وإلا فقد ذهب إيمانه بالكلية كما أخبر سيد البرية؛ لأن القلــب لا يملكه إلا الله، ولا يحول بينه وبين صاحبه أحد.
قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في شرحه لحديث[11] «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده...» الحديث: (دلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأن إنكاره بالقلب لا بد منه، فمن لم ينكر قلبُه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه).
وقال ابن حزم ـ رحمه الله ـ[12]: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم؛ إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر فبلسانه، وإن لم يقدر فبقلبه ولا بد؛ وذلك أضعف الإيمان؛ فإن لم يفعل فلا إيمان له).
وقال أبو العباس القرطبي المالكي عن معنى الإنكار بالقلب: (أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم على أن لو قدَر على التغيير لغيّره، وهذا آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير المنكر، ولذلك قال في الرواية الأخـرى: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» أي: لم يبقَ وراء هذه المرتبة مرتبة أخرى)[13].
ما ورد عن بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في نفي الإيمان عمّن لم ينكر المنكر بقلبه ـ بجانب ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديثين السابقين ـ هناك العديد من آثارهم، نذكر منها ما يلي:
1 ـ سمع ابنُ مسعود ـ رضي الله عنه ـ رجلاً يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر. فقال ابن مسعود: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر»[14].
2 ـ عن أبي جُحَيفة عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن أول ما تُغلبون عليه من الجهادِ الجهادُ بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم؛ فأي قلب لم يعرف المعروف ولا ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفلَه»[15].
3 ـ وعن وكيع عن سفيان عن حبيب عن أبي الطفيل قال: قيل لحذيفة: ما ميت الأحياء؟ قال: «من لم يعرف المنكر بقلبه وينكر المنكر بقلبه»[16].
4 ـ وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كذلك: «أنه ستكـون هَنَــات وهَنَـــات، فبحســب امــرئ إذا رأى منكــراً لا يستطيع له تغييراً يعلم الله أنه له كاره»[17].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس قاصراً على أصحاب الولايات؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» ثـلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»[18].
وما النصيحة إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وهي واجبة على ولاة الأمر وعامتهم، وواجبة على كل أفراد المجتمع حُكّاماً كانوا أو محكومين.
وهي ليست قاصرة على أصحاب الولايات؛ لأنها عبادة تعبّد اللهُ بها جميعَ الأمة حسب الطاقة، وإن كانت مسؤولية ولاة الأمر من الحكام والعلماء أكبر من مسؤولية العامة.
يخطئ كثير من الناس حين يتنصلون من مسؤولياتهم في الأمر والنهي، ويقعون باللائمة على ولاة الأمر، بينما هناك منكرات المسؤولية فيها على (الآباء، والأمهات، والأساتذة، والمربين، ونحوهم) أكبر من مسؤولية ولاة الأمر؛ حيث إنها ربما ظهرت لهؤلاء وخفيت على ولاة الأمر.
والتقصير في هذا الجانب من أي شريحة من شرائح المجتمع له خطره المتعدي على الأمة جمعاء، ولهذا قال رسـولنـا - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والـرجل راعٍ عـلى أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده؛ فكلكم راعٍ ومسؤول عـن رعيتـه»[19]، فـقد عـمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم خصص، ثم عمم على كل شرائح المجتمع.
فاحذر أخي المسلم أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك، فمهما تكن منزلتك فأنت على ثغرة من ثغور الإسلام، بل ينبغي لكل مسلم أن يختزل مسؤولية حماية هذا الدين والذب عنه في شخصه، كما قال خليفة رسـول الله أبو بكـر الصـديق ـ رضي الله عنه ـ عندما لم يوافقه أحد في أول الأمر على حرب المرتدين وردع المارقين: «أَيُنتقص الدين وأنا حي؟!»، أو كما قال.
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: (ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز[20] لآحاد المسلمين).
قال إمام الحرمين[21]: (والدليل عليه إجماع المسلمين؛ فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية)[22].
وقال الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عن شروط الأمر والنهي: (كونه مأذوناً من جهة الإمام والوالي، وقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة، وهذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى، إذ يجب نهيه أينما رآه، وكيفما رآه على العموم؛ فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكُّم لا أصل له.
والعجـب أن الــروافض[23] زادوا علــى هـذا، فقــالــوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم! وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يُكَلَّموا)[24].
• العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي:
يُحْجِم كثير من الناس عن الأمر والنهي لاعتقــادهم أنه لا ينبغي لأحد أن يأمر وينهى إلا إذا كان عَدْلاً كاملاً، حذراً من قوله ـ تعالى ـ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ - صلى الله عليه وسلم -!2!- صلى الله عليه وسلم -) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]، والتوبيخ هنا بسبب ترك البر وعدم الانتهاء عن المنكر، وليس بسبب الأمر والنهي، وإلا لو كــان لا يأمــر بمــعروف ولا ينهــى عن منكر إلا العدول لما أمـر ولا نهى أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ الكمال له.
قال الحسن لمطرِّف بن عبد الله: «عِظ أصحابك! فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول؟! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينهَ عن منكر»[25].
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: سمعتُ سعيد ابن جبير يقول: «لو كان المـرء لا يأمـر بالمعــروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد ولا نهى عن منكر.
قال مالك: وصدق؛ من ذا الذي ليس فيه شيء؟!»[26].
لا شك أن الأفضل والأكمل أن يأتمر المرء بما يأمر، وينتهي عما ينكر، ولكن إن لم يقدر على ذلك فشيء خير من لا شيء.
• شروط صحة الإنكار بالقلب:
لا يتحقق الإنكار بالقلب ولا تبرأ به ذمة صاحبه إلا إذا توفرت فيه هذه الشروط وتحققت، وهي:
1 ـ كراهيته وبغضه لهذا المنكَر بغضاً كاملاً وكراهية تامة؛ كفراً كان هذا الأمر، أم بدعة، أم معصية. وتختلف درجة الكراهية والبغض للمنكر بقدر مخالفته ومجانبته لأمر الله ورسوله ونهيهما.
2 ـ العزم والتربص والسعي على إزالته باللسان أو اليد متى سنحت له الفرصة لذلك؛ فعليه ألا يقنع بإنكار القلب بالكلية، وإنما ذلك هو مرحلة وخطوة أولى في إنكار المنكر أجبره عليها عدم استطاعته على الخطوتين الأوليين.
فمتى تمكّن من إزالة المنكر بالكلية أو إضعافه فعليـه ألا يتوانى في ذلك وإلا كان من الآثمين.
3 ـ مفارقة واعتزال مجالس المنكرات هذه وهجران أهلها.
لا تتحقق توبة نصوح ولا إنكار بالقلب إلا بعد مزايلة ومفارقة مجالس المنكر في الحال وهجر أصحابها وتركهم، إلا إن لم يقوَ على ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
قال القرطبي في تفسير[27] {إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]: (فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لا يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر.
فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم؛ فحمل عليه الأدب[28] وقرأ هذه الآية: {إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]...
إلى أن قال: إذا ثبت تجنُّب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنُّب أهل البدع والأهواء أوْلى..
وروى جبير عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل مُحْدِث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة).
وقال ابن عطية[29]: (والإجماع على النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه، ونهي بمعروف، وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه، ففرض عليه الإنكار بقلبه وألا يخالط هذا المنكر).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (ليس للإنسان أن يحضر الأمـاكن التـي يشـهد فيها المنــكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي، مثل أن يكون هناك أمر يحـتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه ولا بـد فيه مـن حضـور، أو يكون مكرهاً)[30].
مراد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ألا يترك واجباً عليه لمنكر رآه.
قال الدكتور عبد العزيز الفوزان: (فلا يترك الصلاة مع الجماعة مثلاً، لكون المسجد مزخرفاً[31]، أو كان جماعته مسبلين لثيابهم. وقد كان الإمام أحمد، كما جاء في طبقات الحنابلة[32]، إذا حضر جنازة ثم ظهر هناك بعض المنكرات، مثل النياحة أو الضرب بالدف، لم يرجع عنها، ويقول كما قال الحسن لابن سيرين: لا ندع حقاً لباطل)[33].
4 ـ أن يمعر وجهه على أصحاب المناكير. فالظاهر عنوان الباطن؛ فمن كره المنكر بقلبه عليه أن يبدي ذلك في وجهه، فيمعِّره ويقطبه في وجوه أصحاب المنكر إن لم يخشَ بأسهم إن كانوا من ذوي السلطان والجبروت.
وهذه العلامة من أقوى المؤشرات على كراهية القلب لهذا المنكر، وقد يكون لها أثرها في إزالته بالكلية أوالتقليل منه.
ورحم الله ابن عقيل الحنبلي؛ حيث عد هذا التمعُّرَ في وجوه أهل البدع، لا سيما الكفرية لمن لم يتمكن من تغييرها، كما عدَّ الهجرَ من المؤشرات الأساسية لصدق الإيمان وكمال اليقين وإجلال الدين وإكرامه؛ حيث قال: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان؛ فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا إلى ضجيجهم في الموقف بِـ (لبيك!)، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري ـ عليهما لعائن الله ـ ينظمون وينثرون: هذا يقول: حديث خرافة، والمعري يقول:
تَلَوْا باطلاً وجَلَوْا صارماً
وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم!
يعني بالباطل كتاب الله عز وجل.
وعاشوا سنين وعظمت قبورهم، واشتُريت مصنفاتهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب، وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى)[34].
قلت: لقد صدق ابن عقيل؛ إذ ما من شيء يجرّئ الزنادقة وأهل البدع الكفرية على التطاول على كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة، واجتراره من حين لآخر؛ إلا سكوت أهل الحل والعقد وعدم مواجهتهم، أو على الأقل هجرهم واعتزالهم؛ فكيف بطاعتهم لهم، وتصديقهم إياهم في كفرهم وباطلهم؟
وصدق من قال: من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وصدق الله من قبلُ في وصف فرعون وملئه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
ولهذا قرر العلماء أنه من لم يكفِّر الكفار أو شكّ في كفرهم فقد كفر، مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْـحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ } [يونس: 32].
وعند الله تجتمع الخصوم، وسيجمع الله المنافقين وإخوانهم الكافرين في جهنم جميعاً، إنهم يرونه بعيداً وهو قريب؛ إذ كل آتٍ قريب.
• الإنكار بالقلب أمر إيجابي وليس سلبياً:
الخلاصة أن الإنكار بالقلب، إذا توفرت فيه الشروط السالفة بجانب الصدق والإخلاص، يعتبر أمراً إيجابياً؛ ينجي العاجز عن الإنكار باليد واللسان من غضب الله، ويجعله في عداد المؤمنين، ولا يعتبر أمراً سلبياً بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث السابقة، وبشهادة جِلة من علماء الصحابة؛ حيث حكم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان، ونفاه عمّن خلَّى قلبه عنه، لا سيما في آخر الزمان وتكاثر الفتن وتفشي الآثام.
روى أبو داود[35] عن عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر الفتنة، فقال: «إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا» ـ وشبك بين أصابعه، فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: «الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة!».
وعند أبي داود[36] كذلك وغيره عن أبي ثعلبة الخشنـي ـ رضي الله عنه ـ أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}؟ [المائدة: 105]، فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مُؤْثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام».
وقال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: (قد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغييـر المنكـر بأيديهـم، ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم، فيبقى أضعف الإيمان، وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إنْ هم كانوا حقاً على الإسلام.
وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر كما يلوح في بادئ الأمر، وتعبير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه تغيير دليلٌ على أنه عمل إيجابي في طبيعته؛ فإنكار المنكر بالقلب معناه: احتفاظ هذا القلب بإيجابيتـه تجـاه المنكـر، أنـه ينكـره ويـكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.
وإنكار القلب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، وإقامة الوضع «المعروف» في أول فرصة تسنح، والتربص بالمنكر حتى تواني هذه الفرصة، وهذا كله عمل إيجابي في التغيير، وهو على كل حال أضعف الإيمان؛ فلا أقل أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان)[37].
واللهَ أسأل أن يشرح صدورنا للإيمان، وأن يقوي يقيننا، ويفقهنا في الدين، حتى يسعنا ما وسع السلف الصالحين، وأن يرفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفانا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه والتابعين.

 المصدر: مجلة البيان