خواطر 06 الحلقة 27 - إحسان سنغافورة و ماليزيا

عائدة الخالدي
مجلة "المجلة" العدد 607

عدد سكانها 15 مليوناً نصفهم مسلمون 
ينحدر شعب الملايو من اقليم " يونّان" جنوب الصين حيث هاجرت منه جماعات استقر بعض منها في أرخبيل اندونيسيا، بينما استقر معظمها في سنغافورة وشبه الجزيرة التي تعرف بماليزيا.
يبلغ عدد سكان ماليزيا 15 مليوناً و67 ألف نسمة، ويستقر أكثر من 12 مليوناً منهم على الساحل الغربي، حيث تنشط التجارة، بينما يزيد عدد سكان الساحل الشرقي قليلاً عن المليونين ونصف!
تتألف تركيبة السكان من 51% من شعب الملايو، 36% صينيون، 10% هنود، 4% من أعراق مختلفة منهم بين 36،000 إلى 40،000 من شعب "اورانج ازلي"، وهم سكان ماليزيا الأصليين
(سكان الأدغال) الذين مازالوا يعيشون حياة بدائية قوامها الصيد، ويقطنون أكواخاً مبنية من جذوع الأشجار وسط الغابات الاستوائية.
الدين الرسمي للبلاد هو الإسلام، حيث يؤلف المسلمون أكثر من 505 من مجموع السكان.
وماليزيا مملكة، إلا أنها ذات برلمان ديموقراطي مميز، حيث يُنتخب سلطان جديد كل خمس سنوات.
تتألف ماليزيا من 13 ولاية لكل منها اسم محلي وآخر عربي سلامي: فولاية سلانجور مثلاً تدعى "دار الإحسان"، وهناك "دار الأمان" و"دار الرضوان" و"دار النعيم".. الخ.
أقام العرب علاقاتهم التجارية مع شعب الملايو منذ القرن السابع، وبدأ انتشار الإسلام في ماليزيا واندونيسيا في بداية القرن الثالث عشر نتيجة للتزاوج بين العرب والملايو، خاصة في المدن الساحلية الكبرى شمال سومطرة وحتى ملقا في ماليزيا.
ارتبط انتشار الإسلام ببناء مدينة ملقا التي بناها الأمير الهندوسي بارامسفارا الذي اعتنق الإسلام سنة 1414 وسمى نفسه السلطان مجات اسكندر شاه، وعندما توفي سنة 1424 كانت المناطق الواقعة تحت نفوذه قد اصبحت سلطنة إسلامية قوية، وعزز من قوتها الهنود المسلمون القادمون من غرب الهند (مملكة كالينجا)، وعندما تولى السلطان مظفّر شاه مقاليد الحكم (1446- 1458) أصبح الإسلام الدين الرسمي، وأصبحت ملقا مركزاً إسلامياً في جنوب شرق آسيا، وبالتالي ازدادت أهميتها السياسية والاقتصادية، وانتقل التجار، الذين كانوا يقصدون شمال سومطرة فيما مضى، إلى ملقا.
اعتنق الإسلام كثير من الأسر ذات النفوذ، ومن طبقات مجتمع الملايو الأخرى، وعندما توفي السلطان شاه مظفّر سنة 1458 ترك لابنه منصور شاه (1458- 1477) مملكة ذات نفوذ وقوة دينية وسياسية كبيرة.
استطاع وزير السلطنة الكبر تون بيراك ان ينشر الإسلام ما بين سنة 1456 و1498 في باقي أرجاء ماليزيا والقسم الأكبر من سومطرة، وفي هذا الوقت بدأ البرتغاليون يثبتون قدماً لهم في ملقا، ولاذ السلطان بالفرار إلى جوهور وأنشأ سلطنة جديدة، إلا أن نفوذ الإسلام القوي  في ملقا لم يترك مجالاً لدعوات التبشير لديانات أخرى، والتي قام بها البرتغاليون وغيرهم.
أما في شمال بورنيو فقد انتشر الإسلام في بداية القرن الخامس عشر بعد خبو نجم ملقا، واعتنقت الأسرة الحاكمة الإسلام سنة 1515، ومازالت في شمال بورنيو مقابر إسلامية ترجع إلى ذلك العهد. 
بالقطار من سنغافورة إلى ماليزيا 
انطلق بنا القطار من سنغافورة المدينة- الدولة عبر الأراضي الماليزية، وكانت وجهتنا مدينة ملقا على الساحل الغرب والتي تعتبر أقدم مدن ماليزيا.
كانت ملقا في أيا مجدها تتاجر بالتوابل والموز والزنك، وقد استقر فيها كثير من التجار الأجانب كالعرب والتاميل والبورميين وسكان جاوة والصينيين. ورغم أنها فقدت اليوم أهميتها السياسية والتجارية؛ إلا أن مرفأها مازال يزخر بالحركة والنشاط.
يتميز الحي القديم من المدينة بمتاجره التي يختلط فيها فن المعمار الأوروبي (البرتغالي) بالمعمار الصيني، وقد استعمرها البرتغاليون سنة 1511 وأحاطوها بحصن منيع اكتمل بناؤه سنة 1586. وقد صمد الحصن عشرين مرة ضد القوات التي حشدها سلطان ملقا الذي كان قد فر إلى جوهور. ثم بدأ الهولنديون بمزاحمة البرتغاليين منذ سنة 1606 وتمكنوا من اختراق الحصن سنة 1641 بمساعدة سلطان جوهور الذي زوّدهم بأربعين سفينة و 1500 رجل.
أما البريطانيون الذين قدموا إلى ملقا سنة 1797، فقد هدموا الحصن سنة  1807 وأصبحت آثاره المتبقية أحد معالم المدينة. ومن معالم ملقا الإسلامية مسجد هولو الذي بني سنة 1728، ويمتزج فيه فن المعمار التايلندي بفن المعمار العربي. ومسجد كلينغ المبني سنة 1748 الذي يتميز بنقوشه الخشبية الجميلة وخاصة المنبر.
في ملقا لا يجد الزائر إلا مكتباً وحيداً لسيارات الأجرة (التاكسي)، ليستقل منه سيارة وينطلق إلى طول الساحل الغربي حتى بينانغ، وهي في الحقيقة جزيرة متصلة بماليزيا بجسر بحري طوله 8،5 أمتار بني سنة 1985، وعاصمة بينانغ هي جورج تاون التي بناها البريطانيون.
كانت بينانغ (ومساحتها 85 كلم مربع) معقلاً للقراصنة وصيادي السمك قبل قدوم القبطان فرنسيس لاتيس ممثل شركة شرق الهند، والذي احتلها سنة 1786 باسم التاج البريطاني.
يغلب على الجزيرة طابع المستعمرة البريطانية، وتكتظ شوارعها بالصينيين الذين يشكلون غالبية سكانها، ورغم كثرة المعابد البوذية والهندوسية فيها؛ إلا أن فيها أيضاً عدداً من المساجد التي تتميز برشاقة وجمال بنائها، كمسجد نيغارا ومسجد بيكان في جورج تاون. 
عبر الغابات حتى الساحل الشرقي
تربط الطريق السريع، التي انتهى بناؤها سنة 1984، الساحل الغربي بالساحل الشرقي مختصرة 700 كلم من المسافة ما بين بينانغ في الغرب ومدينة كوتابارو في الشرق، حيث كانت الطريق تمر قبل ذلك عبر العاصمة كوالالمبور، وهذه الطريق التي شقت عبر الجبال والغابات الاستوائية، ودام ذلك عشر سنوات، تجعل السفر أقل مشقة، إلا أن بنائها قضى على مساحات شاسعة من الغابات الاستوائية في جبال ترتفع 2000 كلم عن سطح البحر، وتعد من أقدم وأندر الغابات الموجودة حتى الآن.
توقفنا في طريق الغابة لتناول طعام الغداء وقد نمت على حافة الطريق أزهار الأوركيد بينما تناهت إلى أسماعنا أصوات لا تعد ولا تحصى لطيور مغردة وجنادب وكائنات أخرى تعج بها الغابات الاستوائية.
عندما بنيت مدينة كوتابارو قبل 200 سنة كانت تقع على البحر مباشرة، ولكنها امتدت مع مرور الوقت 12 كلم إلى الداخل وأصبحت القوارب الصغيرة تعبر الدلتا ما بين البحر ومصب تهر كوانتان بصعوبة إلى مركز المدينة، وفي موقع المدينة الحالي ازدهرت قبل 1500 سنة حضارة مملكة لانجكاسوكا.
أهم معالم المدينة الاسلامية مسجد المحمدي بمآذنه الأربع المربّعة الشكل والتي تبدو كالأبراج، وقصر السلطان محمد الثاني الذي بني سنة 1844 ويدعى استانة بيزار.
جلنا شوارع المدينة بواسطة نقل طريفة شائعة الاستعمال في ماليزيا، وهي عبارة عن دراجة هوائية ذات مقعد خلفي يتسع لراكبين، ويبذل سائقها كل ما لديه من طاقة رئتين وساقين، وهو يحاول جاهداً شق طريقه بركابه عبر الشوارع المزدحمة!
ولوسيلة النقل هذه مثيلاتها في تايلاند، ولكنها أكثر رفاهية حيث الدراجة نارية وليست هوائية.
مدينة السلاحف المائية 
تابعنا طريقنا على طول الساحل الشرقي من شماله إلى جنوبه حتى وصلنا مدينة ترنجانو (وهو اسم الولاية أيضاً) ذات المنازل القديمة المزدانة بالنقوش الخشبي، والتي يزيد عمر معظمها عن مئة سنة. وما زالت ترنجانو مدينة يغلب عليها طابع القدم، وفيها قصر السلطان الذي بني سنة 1894 ويدعى استانة مازيان ومسجد عابدين الذي بني في بداية القرن التاسع عشر.
وإلى شواطىء ترنجانو تلجأ السلاحف البحرية كل عام لإيداع بيوضها في الرمل الناعم الدافىء، وتضع كل أنثى 900 - 1200 بيضة في حجم كرة التنس.
وقد وضعت الحكومة الماليزية قوانين لحماية السلاحف البحرية بعد ان أصبحت مهددة بسبب الناس الفضوليين الذين يتجمهرون خصيصاً لمراقبتها وهي تضع بيوضها فيصيب معظمها الفزع وتعود إلى المياه دون أن تتمكن من ذلك، كما أن بيض السلاحف مرغوب به لدى بعض الناس كنوع من الغذاء.

أقدم غابة استوائية 
إلى الجنوب من ترنجانو تقع مدينة كوانتان التي تشتهر بمسجدها الأنيق الذي تم بناؤه سنة 1964 وهو مسجد السلطان أحمد الأول. ومن كوانتان تمتد طريق إلى المحمية الطبيعية تامان نيجارا.
آثرنا متابعة الرحلة بالقطار؛ فهو أكثر متعة لما يوفره من اتصال مباشر بالناس.. وشعب الملايو شعب طيب وديع ودمث الخلق (وقد التقينا أناساً عديدين تكلموا العربية وأبدوا فرحاً صادقاً وترحيباً عندما علموا أنني من أصل سوري).
تعد تامان نيجارا - وهي الغابة الاستوائية الواقعة في غرب ماليزيا- واحدة من أقدم الغابات على وجه البسيطة على الاطلاق. إذ أن عمرها يتراوح ما بين 130 – 150 ملون سنة، وهي لم تتعرض أبداً للخراب بسبب عصر جليدي أو تغيّر مناخ أو فيضان.
تبلغ مساحة هذه المحمية الطبيعية 2481 كلم مربعاً، ويحدها من الجنوب نهر سريع التيار هو نهر سونجاي تمبليج.
وتامان نيجارا هي إحدى المحميات الطبيعية القليلة التي تنتهي الطريق قبل الوصول إليها، والسبيل الوحيد للولوج إليها هو القوارب الطويلة الواطئة التي تعبر النهر إلى داخل الغابة في رحلة تستغرق 4 – 5 ساعات بين ضفاف تتشابك فيها أغصان الأشجار بكثافة، بينما القرود الصغيرة تنتقل عليها لاهية، والجواميس تستمتع بحمامها المعتاد، والسحالي الضخمة تنسل ما بين الصخور.
وفي تامان نيجارا أشجار يصل ارتفاعها إلى 60 متراً، وأخرى تعمّر 350 سنة، ويستوطن هذه الغابة 250 نوعاً من الطيور، و200 نوع من الحيوانات منها الضخمة كالفيلة ووحيد القرن (المهدد بالانقراض) والمفترسة كالنمر، إضافة إلى 8000 نوع من الأزهار!
بعد أيا لا تُنسى في تامان نيجارا يممنا شطرنا صوب العاصمة كوالالمبور. 
مدينة شرقية في ثوب عصري

كوالامبور مدينة فتية لا يتجاوز عمرها المئة والثلاثين عاما. ففي سنة 1857 اتجهت مجموعة تتألف من 87 رجلاً بقوارب محملة بالمؤن عبر نهر كالانج بحثاً عن مناطق جديدة لاستخراج الزنك، وحطت المجموعة الرحال شرقي ما يدعى الآن كوالالمبور حيث يلتقي مصبا نهري كلانج وكومباك.. واتسعت المستوطنة حتى أصبحت مدينة قائمة بذاتها ما لبثت أن أصبحت عاصمة لماليزيا. وقد تجاوز عدد سكان كوالالمبور سنة 1984 المليون نسمة، وهي تشبه في عمارتها سنغافورة وتتبعها على طريق اللحاق بركب الحضارة الحديثة.
في المكان الذي استقرت فيه مجموعة السبعة والثمانين رجلاً شرقي كوالالمبور توجد مقبرة إسلامية تظللها البنية الحديثة الشاهقة للبنوك والمكاتب، ومسجد جامي (مسجد الجمعة) الذي بيدو في أبهى حلة وقت غروب الشمس عندما ينعكس لونها الأرجواني على قببه البيضاء، وقد امتزج في بناء هذا المسجد فن المعمار العربي بفن المعمار الهندي.
أما أكبر مسجد في كوالالمبور (بل أكبر مسجد في جنوب شرق آسيا على الاطلاق) فهو مسجد نيجارا الذي يتسع بهوه إلى 3000 مصلي، وفناؤه إلى 5000 آخرين، وقد تم بناؤه سنة 1956 وهو يجمع ما بين فن البناء الإسلامي التقليدي وفن البناء الحديث.
وكوالالمبور حافلة بالمباني الجميلة القديمة والحديثة، ما كان منها أماكن للعبادة أو متاحف أو غير ذلك.. وتزيد من جمالها كثرة حدائقها العامة، وهي حقاً مدينة حديثة إلا أنها مازالت تتمتع بسحر شرقي، خاصة في حيها القديم.
وينطلق القطار بنا إلى تايلاند لنستقل الطائرة مغادرين ماليزيا. ويبقى في جعبتنا الكثير عن هذا البلد الذي تمازجت فيه الثقافات والأعراق وتعددت الديان والمذاهب.. ولكن يبقى الطابع الإسلامي هو الغالب.
  


 التجربة السنغافورية الملهم الأول للنمور الآسيوية
البيان ـ حاتم حسين

   منذ أن تطأ قدماك أراضي هذه الجزيرة الصغيرة المساحة، تشعر أنك أمام أوركسترا مسرحية يؤدي كل فرد فيها دوره بدقة يحسده عليها كل من يأتي من بلد نام مثل بلداننا العربية. ابتداء من سائق التاكسي الذي تركب معه من المطار مرورا بطاقم الاستقبال في الفندق، وصولا إلى أكبر شخصية يمكن أن تتاح لك فرصة مقابلتها في هذا البلد، الذي يمثل معجزة اقتصادية وبيئية واجتماعية بلا أي مبالغة ـ لأنني لست ممن يجيد حلو الحديث ولا الكلام المنمق ـ فإن الجميع يعمل في صمت دون ضجيج وفقا لخطة متكاملة الأركان رضي بها وارتضاها الجميع. 

فسائق التاكسي لا يكتفي بمجرد توصيلك إلى مبتغاك وإنما قد يمنحك معلومات ربما تقضي أوقاتا طويلة كي تصل إليها دون مساعدة. فهو يعطيك فكرة مبسطة عن سر السلاسة المرورية في هذا البلد الصغير على الرغم من أنه من أعلى بلدان العالم كثافة وعلى الرغم من مساحته الصغيرة التي تقل عن 70 ألف كيلو متر مربع يسكنها نحو أربعة ملايين نسمة. أمر غريب بالنسبة لي على الأقل أن أرى هذا القدر من الثقة التي يودعها الشعب متمثلا في مختلف طوائفه من عمال وموظفين، في حكومته؛ فهذا هو ما رأيته ماثلا أمامي من خلال محادثاتي مع العدد الكبير من السائقين وأفراد الشعب الذين التقيتهم خلال فترة إقامتي في ذلك البلد. هذه الثقة وهذا الشعور بأن الساسة والمسؤولين يعملون للصالح العام مهما كان هناك من قيود يعكسان لك مدى الرخاء والازدهار الذي تنعم به هذه الجزيرة، لأنه لو لم يكن الشعب سعيدا لما وثق في الحكومة، وهو الأمر الذي لا يحتاج غيابه في عالمنا العربي إلى تفسير مني وأنا بصدد كتابة هذه السطور! إنها سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة التي تحولت من مجرد دولة صغيرة تقبع في قاع العالم الثالث إلى دولة يشار إليها بالبنان بأنها نموذج يصعب تكراره بسبب الزمن القياسي الذي حققت فيه انجازاتها إلى جانب الدقة المتناهية في تحقيق هذه الانجازات والاستمرارية في النجاح تحقيقا للمثل القائل إن الوصول للقمة سهل بينما الحفاظ عليها صعب جدا.

سنغافورة المتعددة عرقيا وعقائديا، وحديثة العهد بالاستقلال، تدين بنهضتها الحديثة لشخصية زعيمها لي كوان يو، الذي أخرج سنغافورة من محنتها، باتباعه سياسات حازمة وصارمة خلقت له الكثير من المتاعب مع منظمات حقوق الإنسان، لكنه بالمقابل غرس في نفوس مواطنيه قيم الإحساس بالواجب والالتزام والجدية في العمل والتسامح الديني والعرقي بين مختلف مكونات الشعب.

وقضى على التسيب وتعاطي المخدرات الذي كان قبل ذلك متفشيا في سنغافورة بشكل مرعب، واستطاع خلال ولايته أن يحول سنغافورة من مجرد ميناء مزدحم يعج بالفقراء إلى بلد ثري وصناعي متقدم يتمتع بطرق مواصلات جيدة وشبكة سكك حديدية ممتازة،

وبفضله تحولت سنغافورة في العقود الأخيرة إلى مركز من أهم المراكز التجارية في العالم. الأساس في كل هذا النجاح السنغافوري، هو نظام الإدارة السياسية والاقتصادية المبني على الشفافية بشهادة كل المنظمات الدولية، وشهادة أهل سنغافورة أنفسهم.

لي كوان يو هو الذي قاد مسيرة هذا البلد نحو الاستقلال وترأس حكومتها لأكثر من ثلاثة عقود من عام 1959 إلى 1992. ويعرف لي على نطاق واسع بصانع معجزة سنغافورة التنموية وارتقائها من بلد نام في العالم الثالث، على حد تعبيره، إلى مصاف الأمم المتحضرة في العالم الأول.


وفي ظل قيادته، تحولت سنغافورة إلى أنشط ميناء بحري في العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير النفط ومركز عالمي رئيسي للصناعات التحويلية والخدمات، ناهيك عن مجال الشحن، حيث لدى سنغافورة تجربة رائدة في أتمتة نظم العمل وتقديم خدمات الكترونية متطورة على مدار الساعة بالاعتماد على قاعدة متطورة للمعلومات والبيانات وكوادر بشرية على قدر كبير من المعرفة والخبرة بفضل برامج التدريب المتقدمة والمتواصلة.

وكل ذلك مكنها من انجاز الأعمال بسرعة ودقة لتصبح من اكبر الموانئ في العالم لتداول الحاويات بطاقة بلغت 18, 5 ملايين حاوية العام الماضي ومتوقع وصولها إلى 21 مليون حاوية سنويا. ونتيجة لكل هذه الإنجازات ارتفع المتوسط السنوي لدخل الفرد الحقيقي فيها من أقل من 1000 دولار أميركي لدى حصولها على الاستقلال إلى قرابة 30000 دولار اليوم.

وتمثل رحلة الصعود المذهلة لسنغافورة واحدة من معجزات القرن الماضي. فعند استقلال سنغافورة في مطلع الخمسينيات كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع دخلها القومي مما عزز التشاؤم حول قدرة الدولة الصغيرة على النمو بمفردها والدخول إلى مصاف الدول المعترف بها.

كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات؟ وكيف ضمنت هذه الدولة الاستمرارية في عالم متقلب وفي واحدة من أسخن مناطق العالم سياسيا وأكثرها تقلبا من الناحية الاقتصادية؟ الإجابة هي بناء الإنسان والاهتمام بالتعليم في المقدمة و قبل كل شيء. إنها ثورة المعرفة، فبعد الثورة الزراعية في القرن التاسع عشر وبعد الثورة الصناعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد الثورة التقنية التي قادتها أميركا، تأتي ثورة المعرفة التي تقودها دول محدودة في العالم الآن وعلى رأسها سنغافورة.


إن الأساس الذي اعتمدت عليه سنغافورة في تحقيق معجزتها هو بناء الإنسان وقبله الاعتماد على القيم الحضارية والتاريخ والتقاليد ومن ثم الانطلاق إلى الأخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدودا للتطور. إن ثمة مجموعة أسس يمكن الاعتماد عليها في توضيح هذه المعجزة؛ أولها تبني نظام حازم لتحديد النسل حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 9, 1% في 1970 و2 ,1% في 1980، مما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي تمثل عائقا مخيفا للتنمية.

لكن ما إن أصبح الاقتصاد السنغافوري في حاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة المؤهلة حتى غيرت الدولة سياستها السكانية في الاتجاه المعاكس باعتماد برنامج جديد يهدف لتحفيز المواطنين لزيادة النسل، خصصت له ميزانية تقدر بـ 300 مليون دولار.

وهذا التغير في السياسة السكانية ناتج عن أن كل مولود جديد في مرحلة التخلف يعني عبئا على الاقتصاد، بينما في مرحلة النمو والتقدم ومع توفر الخدمات التعليمية والصحية اللازمة للأطفال فان ذلك يجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها عجلة الاقتصاد إلى الأمام.

أما الأساس الأهم فارتكز على سياسة تعميم التعليم وتحديثه باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية، بينما لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون من ضمن الـ 30 دولة الأولى في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي للتقدم التعليمي في مادة الرياضيات على سبيل المثال .

اشتهرت هونج كونج في ظل الحكم البريطاني بتخصيص رواتب عالية لموظفي القطاع الحكومي، تصل إلى مليون دولار كراتب سنوي لوزير المالية، مما ساعد على تحولها إلى مركز مالي عالمي. و سار باني النهضة السنغافورية الحديثة لي كوان يو على النهج نفسه، عندما اقر منذ عام 1994 نظاما يمنح رواتب لموظفي الحكومة تساوي أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الموظف نفسه في القطاع الخاص.

على هذا الأساس، بلغ الراتب السنوي للوزير في سنغافورة 800 ألف دولار، خلال السنة الماضية. ثم جاء إعلان الحكومة في أبريل الماضي عن زيادة رواتب الوزراء بنسبة 60 % ليصل الراتب السنوي للوزير 2 ,1 مليون دولار أميركي، أي أكثر من ثلاثة أضعاف راتب الرئيس الأميركي (400 ألف دولار)، بينما يصل راتب رئيس الحكومة إلى 2 مليون دولار، أي خمسة أضعاف راتب الرئيس بوش. حفز نظام الرواتب هذا كافة الأنشطة و في مقدمتها المؤسسات التعليمية.

النظام التعليمي في سنغافورة مرتبط بالدرجة الأولى باحتياجات الإنسان في الدولة التي كانت تعاني من فقر شديد ولا تمتلك أي موارد طبيعية. لقد اعتمد لي كوان في رؤيته على الإنسان وتطوير قدراته ومهاراته كركيزة أساسية للتنمية، وبناء نظام تعليمي يلبي متطلبات مراحل التنمية وتأسيس الدولة.

لذلك تم التركيز على مهارات الاتصال واللغة الإنجليزية كلغة تجمع كافة فئات الشعب على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وخلفياتهم الثقافية بالإضافة إلى المحافظة على لغة كل قومية موجودة ـ الأمر الذي أحدث نوعا من التوازن لمواكبة تطور سوق العمل والمهارات المطلوبة لاستيعاب الاقتصاد الجديد والنجاح فيه.

سنغافورة تمتلك الكثير ما يمكن الاستفادة منه. فمن الملاحظ أن أغلب المدارس تعتمد ثنائية اللغة في المناهج التعليمية. فاللغة الإنجليزية كانت اللغة السائدة إلى جانب اللغات الأخرى مثل الصينية التي ينتمي إليها أكثر من 80 %من الشعب السنغافوري.

ومن الأمور الأخرى الإيجابية في التجربة السنغافورية مسألة التدريب والتطوير المهني المستمر لكافة العاملين في المؤسسات التعليمية سواء في القيادات التربوية أو مدراء المدارس أو على صعيد البحوث التربوية، وكذلك مراقبة أداء المعلمين والطلبة في المدارس بناء على خطط تعتمدها المؤسسة التي تشرف على التعليم .

ومن ثم النظر في تطوير المناهج أو طرق التقويم. كما يميز سنغافورة بشكل كبير النظر المستمر في المناهج الدراسية خاصة في الرياضيات والعلوم التي تتميز بها على الصعيد العالمي، وهي مناهج متطورة قائمة على التحليل والنقد واستطاعت من خلال تعليم هاتين المادتين من تحقيق مراكز متقدمة على مستوى التعليم عالميا.

البحث الدائم على التميز، واستراتيجيتهم الواضحة المعالم وكفاحهم المتواصل من أجل تبوؤ مكانة متميزة في هذا العالم هي كلها سمات أصيلة من سمات هذا البلد. فالبقاء من وجهة نظرهم ليس للأقوى بل هو للأذكى لذلك نجد أن الحافز عندهم متوفر على الدوام.

هناك شعور دائم عند الشعب السنغافوري بأن استمراريتهم في عالم المعلومات يتطلب منهم إتقان التكنولوجيا واستعمالها بشكل مكثف، ولذا فإنهم حريصون على أن تكون سنغافورة الأولى في مجال مدارس المستقبل وهم مؤهلون أن يعيشوا هذه التجربة أكثر من غيرهم.

كما أصبحت الدولة رائدة في مجال البحوث العلمية، بما فيها التقنيات الحديثة. فلكل مليون ساكن، يوجد 4745 عاملا في الأبحاث و التطوير في سنغافورة، مقابل 4484 عاملا فقط في أميركا. واعتمدت المعجزة السنغافورية على أساس آخر لا يقل أهمية عما سبق سرده أعلاه، حيث اعتمدت على بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا أكثر) وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة.

كما تم الاعتماد على أسس وظيفية تمثل نموذجا يمكن أن يدرس، من بينها أن التعيين في مختلف الوظائف يتم عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع إلى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الإداري والمالي إلى درجة أن سنغافورة تتصدر حاليا مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.

ثم يأتي الجانب الإداري والمالي للعمل في سنغافورة الذي يتميز بالكفاءة العالية في الأداء وربط جميع الخطط والبرامج بتقنية المعلومات واستخداماتها في التعلم. لا يمكن كذلك عدم الإشارة إلى جهود الحفاظ على البيئة والقضاء على التلوث على الرغم من الدفق الهائل للنشاط الصناعي في البلاد.

ثم تأتي معجزة المحافظة على الموارد البيئية من خلال تقنية «نيو واتر» أو الماء الجديد، وهي التقنية التي تقوم على إعادة تدوير مياه الصرف والأمطار بطرق كيميائية معقدة للغاية كي تصبح في النهاية مياها صالحة للشرب و للاستخدام الصناعي و الزراعي. كما تحتل سنغافورة المركز الأول على قائمة أقل بلدان العالم إهدارا للمياه و ذلك بنسبة 5% فقط فاقد مياه سنويا، أي أنها تتخطى أكثر دول العالم تقدما في هذا المجال.

يمكننا القول بلا أي مبالغة إنه يمكن اختزال نجاح النمور الأسيوية بمعرفة تفاصيل التجربة السنغافورية، التي تمثل الملهم الأول لتلك النمور. الأرقام ليست الشاهد الوحيد على ذلك، إذ إن تاريخ تجارب النمور الأخرى يثبت هذا، كما هي الحال مع جارتها ماليزيا.

قلة يعرفون أن الازدهار الماليزي اللافت في كل المجالات يمثل استنساخاً للتجربة السنغافورية، والعهدة في ذلك على رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، الذي كانت سنغافورة مطلع العلم والمجد له ولبلاده. مهاتير اقترب من التجربة السنغافورية أثناء دراسته في الجامعات السنغافورية مطلع الثمانينات، ومثلت اجتماعاته مع مسؤوليها آنذاك اللبنة الأولى لما تشهده ماليزيا اليوم من تطور مذهل.

ولم تتوقف التجربة السنغافورية عند هذا الحد، بل امتدت إلى كل دول النمور المجاورة، وتعدت إلى دول غربية كبرى سبقت حضارتها بلاد الشرق بمدة طويلة. ولأن سنغافورة نجحت في قيادة بقية النمور بنجاح في ميادين الاقتصاد العالمي، فإن القوى الاقتصادية الكبرى في العالم بدأت تنتقل من الغرب إلى الشرق، بما ينبئ بتغيير موازين القوى الاقتصادية، بل وشكل القوى السياسية وتوزيعها في العالم.

فسنغافورة مع ماليزيا، واندونيسيا وتايلاند، والهند وتايوان، والصين وكوريا الجنوبية، بدأت تصعد على حساب بريطانيا وايطاليا وفرنسا وكندا وألمانيا واليونان وإسبانيا. وكثيرون في الغرب باتوا على دراية في الوقت الحالي بقوة نمور آسيا وتأثيراتها المستقبلية المحتملة، إذ يضم اقتصاد آسيا ما يزيد على 4 مليارات شخص (60 %من سكان العالم) يعيشون في 46 دولة مختلفة.

ويُحسب لسنغافورة أنها تسير اقتصادات النمور إلى الأمام. وقد دخلت اندونيسيا وفيتنام والفيليبين على الطريق نفسه، متأثرة بالتجربة السنغافورية نفسها، فالإحصاءات تؤكد أن سنغافورة أكبر الدول المستثمرة في اندونيسيا ذات الكثافة السكانية الكبيرة.

كما يحسب لها انها المثال الأول لستة بلدان آسيوية، باتت بين أكبر الاقتصادات ال25 الأعلى في العالم، إضافة إلى أن خمسة منها حققت مكاسب هائلة على حساب الزعماء التقنيين التقليديين من الغرب، وفقاً لاتحاد التجارة الدولي.

سنغافورة أشبه بخشبة المسرح، كل يؤدي دوره حسب النص المفترض، من سائق سيارة الأجرة حتى رئيس الدولة.. بلد ينعم باقتصاد مزدهر وحياة غنية ومستقرة، وسنغافورة مثلها مثل كثير من بلدان العالم العربي، فهي جمهورية صغيرة تتكون من جزيرة سنغافورة وبعض الجزر الأخرى، وتبلغ مساحتها 61 ألفا و718 كيلومترا مربعا.

سنغافورة خليط بشري متناقض، 65%من أصول صينية، و24% من أصل ماليزي، و9% من الباكستانيين والهنود والإندونيسيين، و2% أعراق أخرى. يدينون بديانات مختلفة، مثل البوذية، والإسلام، والهندوسية، والكاثوليكية، كما يتحدثون بلغات مختلفة :اللغة الصينية، واللغة الماليزية، ويتحدث الهنود لغة التاميل، وهناك لغات محلية أخرى، لكن اللغة الإنجليزية تعتبر اللغة الوسيط بين هذه الأجناس والديانات واللغات.

لكن على الرغم من هذا التشابه الظاهر في القشرة الخارجية، هل يمكننا القول إننا يمكننا استنساخ التجربة السنغافورية في الشرق الأوسط؟ بعد زيارة قصيرة لهذا البلد أعتقد أنه باستثناء دبي التي تحظى بإعجاب كبير من قبل جميع المسؤولين السنغافوريين باعتبارها نموذجا يتكامل في عناصره مع نموذج بلدهم، فإن الفارق بين هذه الجزيرة الصغيرة منعدمة الموارد الطبيعية، و بين بلداننا العربية ذات المساحات المترامية والموارد الطبيعية هو فارق سنوات ضوئية، وعذرا على بعض المبالغة!!