نحن كلنا نعلم أن القرآن قد نزل في قوم برعوا بالشعر واللغة، فجاءت المعجزة القرآنية لتعجزهم لغوياً وبلاغياً، حتى قالوا عن القرآن بأنه سحر، والإنسان لا يصف شيئاً بالسحر إلا إذا أذهله هذا الشيء وأصبح فوق مستوى تفكيره.
فالعرب قوم كان سلاحهم الفصاحة والبيان، فعندما سمعوا أسلوب القرآن كان هذا الأسلوب الرائع وسيلة لإقناعهم بأن هذا القرآن ليس قول بشر بل هو قول رب البشر سبحانه.
هذه هي قوة المعجزة، تقلب الملحد من الإلحاد إلى الإيمان بسرعة، وربما نتذكر كيف كان إسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما سمع آيات من سورة طه، فتحول فجأة إلى إنسانٍ رقيق تدمع عينيه من خشية الله تعالى بعد أن كان من المعاندين لهذا الدين.
وتأمل معي العصر الذي نعيشه اليوم، هل بقي للبلاغة مكان يُذكر؟ لقد أصبح للأرقام بلاغة ربما تفوق بلاغة الكلمات، وأصبحت لغة الرقم هي لغة الإقناع ولغة العلم ولغة التطور. والحكمة تقتضي أن تكون معجزة القرآن في هذا العصر معجزة علمية ورقمية.
فالإعجاز العلمي للقرآن لا يخفى على أحد، فقد تحدث كتاب الله عن حقائق علمية وكونية وطبيَّة... لم يكتشفها العلم الحديث إلا منذ سنوات فقط، أليس هذا إعجازاً علمياً للقرآن؟
ولغة الأرقام في القرآن والتي نحاول اليوم اكتشافها سيكون لها الأثر الأكبر في المستقبل لإقناع غير المؤمنين بأن هذا القرآن هو كتاب الله.
فضل المعجزة القرآنية على المعجزة الحسية
أيد الله سبحانه أنبيائه ورسله بالمعجزات لتكون برهانًا وشاهدًا على صدق ما جاءوا به من البينات والهدى، بيد أنه قد لوحظ أن المعجزات التي سبقت معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزات حسية تعتمد أساسًا خرق ما اعتاد الناس عليه وألفوه.
وجاءت معجزة خاتم المرسلين معجزة عقلية فكرية بلاغية، تناسبت مع تطور البشرية من حالة الجهالة المطبقة، والظلام الدامس، إلى حالة إعمال العقل وتحرير الفكر، وإن شئت قل: حالة استعداد البشرية لتلقِّي خطاب العقل، وتشوفها نحو حرية الفكر.
وجاءت معجزة القرآن معجزة عقلية، تناسب كون هذه الرسالة جاءت للناس كافة، وإلى الأزمان عامة، فاعتمد إعجازه على أمر خارج تطورات المعارف وتباين الثقافات.
جاءت معجزة هذا الدين مرتكزة أساسًا على عقل الإنسان، فهو خاصية له وصفة ذاتية فيه، لا تزول ولا تتبدل بالتبدلات والتغيرات الزمانية والمكانية.
ثم إن كل نبي من الأنبياء إنما أوتي آية حسية كانت فاعلة معه ما دام حيًّا، فلما مات الأنبياء ماتت بموتهم المعجزات، وفنيت بفنائهم، حتى جاء نبينا صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الباقية بقاء الدهر، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وبقيت معجزته سراجًا منيرًا، ومنارًا مستنيرًا، وشاهدًا ودليلاً على خلود هذا الدين، وأنه الدين الذي ارتضاه سبحانه لعباده، والذي لا يقبل من أحد سواه.
لقد ورث الناس عن أنبيائهم شرائع وأحكامًا ولم يرثوا عنهم معجزات، وورث المسلمون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم شريعة هي آية باهرة، وآية هي شريعة ومنهاج وصراط مستقيم. وهذا هو الوجه الأهم والأبرز في إعجاز القرآن، إذ وظيفة الآية للأنبياء إثبات صدقهم وبلاغهم عن ربهم، فبها يؤمن الكافرون، وبها يهتدي الضالون؛ فإذا مات الأنبياء عادت المعجزات الحسية أخبارًا تُروى لا حقائق تشاهَد وتُحَسُّ وتُبْصَر.
وهذا فيصل التفرقة بين معجزات الأنبياء، ومعجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ المعجزة الحسية هي بيِّنة صاعقة لمن رآها، غير أنها تغدو خبرًا لا يُصدق لمن سمع عنها؛ يُرشد لذلك أنه لو كذب أحد: أن عيسى عليه السلام أحيا الموتى من ألفي عام، وأراد دليلاً دامغًا على صدق ذلك الأمر الذي لا يعقل وليس له سابقة في حياة البشر، فإن أحدًا من النصارى مهما أوتي من حجة لا يمكنه إقامة الدليل على ذلك؛ لأن ذلك أمر خارق للعادة أصلاً، وخارج نطاق العقل.
ومن هنا كان أكثر النصارى إما حيارى لا يعقلون، أو ورثوا الديانة عن آبائهم فهم على آثارهم يُهرعون. فالمعجزات الحسية كانت قوية لمن رآها وشهدها، ولكنها تبقى عرضة للشك العميق لمن سمعها جيلاً بعد جيل. وإيمان المؤمنين المسلمين بمعجزات الأنبياء السابقين إنما كان لإخبار القرآن الكريم والسنة النبوية بها ليس إلاَّ.
لقد كان القرآن معجزاً كله بما يناسب المرحلة الأخيرة التي وصلت إليها البشرية، مرحلة العلم والعقل، تلك المرحلة التي تجاوزت كل ما هو محسوس وملموس، وأولت عنايتها بجانب الفكر والعقل؛ لأنه الأساس الذي تُبني عليه باقي جوانب الحياة
والآن مع الفلم الوثائقي المستمد من مؤلفات العالم الكبير هارون يحيى