بدأ اعتناق اليمنيين للإسلام بصورة فردية أو مجموعة أفراد حتى كان العام التاسع للهجرة عندما دخل اليمنيون في الإسلام أفواجاً أفواجاً وذهب ممثلو القبائل إلى (المدينة المنورة ) لمبايعة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسل عدداً من كبار الصحابة – رضوان الله عليهم – لتعليم اليمنيين مبادئ الإسلام .. وباستثناء فتنة الأسود العنسي في نهاية عهد الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يشهد اليمن قلاقل خطيرة ، وسرعان ما انخرط اليمنيون في حركة الفتوحات الإسلامية وأسهموا فيها إسهاماً جليلاً في بلاد العراق وفارس وما وراء النهرين ، وفي بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا وصولاً إلى بلاد الأندلس في جنوب أوربا .
وفي عهود الخلافة الراشدة والدولتين الأموية والعباسية ظلت أوضاع الجماعات القبلية في اليمن كما كانت ، فقد اكتفت العواصم الحاكمة في بغداد أو دمشق بتعيين ممثليها الذين أطلقت عليهم ألقابا مثل : ( الولاة – الوزراء – الأمراء ) ،وهؤلاء كانوا يتولون مهمة حفظ النظام في الولايات والمدن الإسلامية أما المناطق القبلية فقد استعانت الدول المتعاقبة بزعماء القبائل في إدارة شؤونها المحلية ، وبقيت الأحوال فيها وفق النظام القبلي المعهود حيث كانت المناطق القبلية تحكم نفسها تحت زعامة رؤساء العشائر والقبائل القوية.
أدت التطورات السياسية في اليمن، و لاسيما بعد ضعف الدولة العباسية وبدء ظهور الدول اليمنية المستقلة ، إلى عودة تنامي نفوذ الزعماء القبليين المحليين وخاصة عند اشتداد الصراعات على السلطة بين زعماء ومناصري الطوائف الدينية المختلفة بعضهم بعضا ، أو بينهم كل على حدة ، وبين الدول المحلية التابعة لدولة الخلافة في دمشق أو بغداد أو القاهرة بسبب محاولات فرض نظام شمولي محل النظام القبلي مما كان يؤدي إلى تذمر الفلاحين واستيائهم وثورتهم على الدولة ، ولذلك تميزت الحياة السياسية في اليمن بعدم الاستقرار والاضطراب السياسي ، وأدى ذلك إلى ظهور النزوع الاستقلالي لدى الجماعات القبلية المحلية ، كما ساعد على ذلك الظروف الجغرافية الصعبة والعوامل الاجتماعية و المذهبية .
وفي العام (284هـ – 897م) جاء الإمام الهادي يحيى بن الحسين إلى اليمن قادماً من المدينة المنورة بعد أن اتصل به بعض زعماء القبائل اليمنيين من ( حاشد وبكيل ) ودعوه للمجيء إلى اليمن في زمن سادت فيه الفوضى ، وعدم الاستقرار ، وضياع الحقوق، وقد ساندت تلك القبائل دعوة الإمام الهادي انطلاقاً من رغبتها في وضع حد للتناحر والاقتتال فيما بينها بتأمير واجهات دينية ( مهجرة ) لم تكن طـرفـاً في القتال القبلي ، وكانت قبائل المناطق الشمالية الشرقية ( حــاشد وبكــيل التي تنتمي لقبيلة همدان بن زيد) معروفة بولائها للعلويين تاريخياً منذ أيدوا الإمام (علي بن أبى طالب) ، وظلوا على ولائهم لذرية الإمام علي ، ولذلك يمكن القول إن مساندة القبائل كانت تقوم – أيضاً – على أساس قوي من الاعتبارات الدينية البحتة ، والتعاطف مع ( آل البيت ) الذين صّوروا للقبائل معاناتهم الطويلة والمظالم والبطش والتنكيل الذي لحقهم من قبل الأمويين والعباسيين ، كما اعتبرت القبائل اليمنية أنها ملزمة بتقديم الحماية والمساندة لأحفاد الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم - لأنهم ضيوف وليسوا ضمن التكوين القبلي فيجب احترامهم وحمايتهم.
ومنذ ذلك الحين تعزز الدور السياسي للقبائل اليمنية بقوة، وخاصة في المناطق الشمالية والشرقية حيث ظلت دولة الأئمة الزيديين تعيش في حدودها وتمتد فيها أحياناً وتنكمش أحياناً أثناء العهد الأول لدولة الأئمة ، وظلت هذه القبائل – حاشد وبكيل – تلعب دوراً سياسياً وعسكرياً هاماً طوال عهد الإمامة الزيدية حتى سقوطها النهائي في 1962م.
ومع كل تلك الاعتبارات الدينية ، فإن العلاقات العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الجماعات القبلية من جهة وبين الأئمة من جهة أخرى اتسمت بالتقلب والتحول والتوتر والتمرد بسبب محاولة بعض الأئمة فرض نفوذهم على الشؤون المحلية للقبائل والحد من استقلاليتها ، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان التنافس بين العلويين على منصب الإمامة وقناعة كل واحد من المتنافسين بأنه أحق بها وفقاً للشروط الأربعة عشرة المشهورة ، كان ذلك يزيد من التوتر والتناحر بين الأئمة وبين الجماعات القبلية ، حيث كان كل داعية لنفسه بالإمامة يلجأ إلى جماعات قبلية لكسب تأييدها له ومساندتها له في حروبه ضد الآخرين .. وقد أشعل هذا الصراع بين الأئمة روح العصبية القبلية بسبب الحروب الدامية المتتالية والانقسامات الشديدة بين القبائل . ويمكن القول إن عهد الأئمة الزيديين قد شهد بروز الدور السياسي والعسكري للجماعات القبلية في المناطق الشمالية الشرقية ، كما أدى إلى تعزيز استقلالها وترسيخ مكانة زعمائها القبليين ، وبرز أكثر دور قبائل حاشد وبكيل في الأحداث السياسية والحربية رغم بروز الصراع والعصبية القبلية التي كان الأئمة يغذونها لضرب القبائل بعضها ببعض واعتماد سياسة فرق تسد لشغل القبائل بالصراع فيما بينها حتى لا تتفق ضد حكم الأئمة ومواجهة الظلم الواقع عليها.
ومن المفارقات أنه بالرغم من أن الجماعات القبلية في المناطق الشمالية الشرقية شهدت بروز دورها السياسي والعسكري ومحافظتها على وحدتها واستقلاليتها وقوتها في زمن الدويلات التي حكمت اليمن ، فإن الجماعات القبلية بالمناطق الوسطى والجنوبية شهدت ضموراً تدريجياً في قوتها ودورها السياسي بسبب نجاح الدويلات في تلك المناطق في إقامة حكم مركزى قوي عكس أثره على الدور القبلي ، كما اندمج زعماء القبائل في علاقتهم مع ( الدولة ) التي تمكنت من تحويلهم إلى ما يشبه ( كبار الموظفين ) لديها، ورافق ذلك تدهور العلاقات بين الزعماء القبليين – الذين أثروا ثراء فاحشاً وتملكوا الأراضي – وبين رجال القبائل ، فلم تعد العلاقات بين الطرفين قائمة على الندية والتقدير والشعور بالمسؤولية ، فسادت المظالم والعداء بين الطرفين مما أفقد الظاهرة القبلية في تلك المناطق أهم مقوماتها وهو التضامن والمساعدة والمساواة والقيام بحاجات الرعية وخدمتهم .
في المرحلة الأولى من الوجود العثماني في اليمن في القرن العاشر الهجري، لم يستطع العثمانيون ضمان الاستقرار والأمن في البلاد بسبب ممارسات بعض الحكام والولاة ضد المواطنين مما مهّد لقيام ثورة ضدهم بقيادة الإمام القـاسم بن محمد عام 1045هـ ، وقد لقيت هذه الثورة استجابة قوية من قبل بعض القبائل في المناطق الشمالية الشرقية بين صنعاء وصعدة ، بل إن القبائل هي التي بادرت بمطالبة الإمام القاسم بالتمرد، وقام الكثير من رؤساء هذه القبائل بمراسلته سراً ودعوته للهجوم على العثمانيين بسبب تذمرهم من ممارسات ولاتهم ، بل وأرسل زعماء القبائل أبناءهم إلى الإمام كرهائن لديه لتأكيد ولائهم له واستعدادهم للقتال معه ، ولم يكن التذمر من سياسة الولاة العثمانيين هو السبب الوحيد لثورة القبائل بل كذلك كانت الدعاية الإمامية سبباً مهماً فقد كانت تصف العثمانيين بأنهم خارجون عن الشريعة الإسلامية ، ويستبيحون المحرمات كالزنا والخمر والربا ، ويمارسون المظالم والعلاقات غير السوية ،ونجحت ثورة الإمام القاسم في إلحاق الهزائم بالجيوش العثمانية ، واستتب الأمر للإمام بعقد صلح مع العثمانيين آلت بموجبه الأمور إليه ، وامتدت سيطرة الدولة المركزية من الحجاز حتى عُمان وعاد مجدداً عهد الوحدة اليمنية .
استقرت الأمور في اليمن بعد جلاء العثمانيين لقرنين من الزمن ، لكن الصراع عاد من جديد بين المتنافسين على الإمامة ، وعمت الفوضى من جديد ، وضعفت سيطرة الدولة على أجزائها ، وبدأ الولاة في بعض المناطق يستقلون بإدارتها ، وفي فترة الفوضى هذه نجحت بريطانيا في احتلال عدن عام 1839م بعد أن صارت سيطرة صنعاء عليها اسمية ، وأدى الاحتلال الإنجليزي لعدن إلى عودة الاهتمام العثماني باليمن فعاد الجيش العثماني إلى اليمن عام 1849م لكن نفوذه انحصر في الساحل التهامي بعد أن فشل العثمانيون في إحكام سيطرتهم على صنعاء ، وبعد أن تجددت الخلافات بين المتنافسين على الإمامة تقدم العثمانيون نحو الشمال وسيطروا على صنعاء لكن المناطق الشمالية ظلت متمردة عليهم مع عجز الطامعين في الإمامة عن توحيد أنصارهم في مواجهة العثمانيين وبعدما بويع الإمام محمد بن يحيى حميد الدين بالإمامة بدأ بمحاربة العثمانيين، واستعان بالقبائل المحاربة من حاشد وبكيل ، ولقي مساندة قوية من كبير (آل الأحمر) حينها وزعيم حاشد الشيخ/ ناصر بن مبخوت الأحمر ، واشتبك الإمام ورجال القبائل مع العثمانيين لكن الطرفين لم يستطيعا فرض هيمنتهما على بعضهما ، وبعدما توفي الإمام المنصور محمد يحيى حميد الدين تولى الإمامة بعده ابنه الإمام يحيى حميد الـدين بــدعم قوي من الشيخ/ ناصر مبخوت الأحمر زعيم حاشد الذي حسم الأمر وأصر على مبايعة ( يحيى ) إماماً في العام 1904م ، وتم كل ذلك في مناطق ( حاشد ) حيث كان الإمام المتوفي يعيش في كنف قبيلة حاشد.
واصل الإمام الجديد يحيى حميد الدين أعمال الحرب ضد العثمانيين مستعيناً بالقبائل ، فنجح في الاستيلاء على مدن مهمة مثل ( عمران ) و ( حجة ) و (ثلا) وحاصر (صنعاء) نفسها ، وعجز الأتراك عن فك الحصار ، وعجزت قوات الإمام يحيى عن دخول صنعاء حتى ساءت الأحوال بصورة مريعة هددت حياة المواطنين ، ثم حدثت مفاوضات مع الإمام يحيى في ( كوكبان ) تم على إثرها استسلام الذين كانوا في صنعاء التي دخلها الإمام يحيى عام 1905م لكن الدولة العثمانية لم توافق على الصلح ، وعاد العثمانيون بجيش عظيم تمكن من دخول صنعاء مجدداً في العام نفسه بعد انسحاب الإمام يحيى وعودته إلى بلاد (حاشد) من جديد ، واستمرت المناوشات والمواجهات بين القوات التركية وبين القبائل اليمنية ، ولحقت بالأتراك خسائر فادحة بسبب شدة المقاومة مما كلف الدولة العثمانية خسائر باهضة من المال والرجال ، فعرض الأتراك على الإمام يحيى المفاوضات لكنها لم تؤدِ إلى نتيجة ، وعادت الحروب مجدداً ، وفشلت كل المحاولات لإيقاف الحروب وبسط السلام حتى نجحت مساعي الصلح في عقد اتفاق (دعان) في العام 1911م الذي احتفظ للدولة العثمانية بحق السيادة في اليمن ، ومنح الإمام يحيى حق تعيين القضاة في المناطق التي يهيمن عليها ، والإشراف على المسائل الشرعية وخاصة أن تكون الجباية على الطريقة الشرعية.
وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1918) ورث الإمام يحيى سلطتها في اليمن ، وتأسست المملكة المتوكلية اليمنية في المناطق الشمالية والغربية فيما ظلت ( عدن ) والمناطق الشرقية حتى حضرموت والمهرة تحت سيطرة الإنجليز .
بدأ الإمام يحيى حميد الدين في توطيد قبضته على السلطة بمحاولة القضاء على الجماعات والأفراد الذين دعموا وصوله إلى الإمامة مما أدى إلى نشوب حروب مع القبائل التي تمردت مثل ( حاشد ) التي عانت من عدم تقدير الإمام لدورها في دعمه للوصول إلى السلطة ومشــاركتها في الحـــروب الطــويلة ضد الأتراك ، كما شن الإمام حروباً ضد قبيلة ( المقاطرة ) في تعز و ( الزرانيق ) في الحديدة ، وقمعت هذه القبائل قمعا شديدا، وأحكم الإمام قبضته على كل البلاد واستخدم القبائل ضد بعضها بعضاً في سبيل تحقيق هيمنته على كل شيء ، وفي سبيل إخماد ثورة 1948م الـدستـورية أبـاح الإمـام( أحمد ) العاصمة صنعاء للقبائل لمدة ثلاثة أيام انتقاماً لمقتل أبيه، وشهدت فترة الخمسينات عودة ظهور التمرد القبلي ضد الإمامة واستبدادها ، وتبلورت حركة القبائل في أواخر الخمسينات لكنها انتهت بالفشل ،وعندما قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م دعمت القبائل الجمهورية النظام الجمهوري بقوة فيما انحازت عدد من القبائل إلى الجانب الملكي تحت مبرر مواجهة النفوذ الأجنبي المصري ، وتعزز دور الجماعات القبلية أثناء الحرب الأهلية 62 – 1970 م ، وبرز عدد من كبار المشائخ في مقدمة الصفوف أثناء الدفاع عن الثورة والجمهورية أو في ممارسة العمل السياسي في زمن السلام.
وعلى الرغم من أن دور الجماعات القبلية يبدو أكثر خفوتاً الآن، إلا أن ذلك لا يعني أن النظام القبلي قد اضمحل ، فما زال هذا النظام موجوداً وإن كان ازدياد قبضة الدولة واستيعابها لمعظم المشائخ قد أدى إلى تراجع دور الزعماء القبليين خلف دور الدولة كما أن الدولة أعادت للنظام القبلي وزعماء القبائل والعشائر اعتباره ودورهم في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كانت ضمن إطار ( اليمن الجنوبي ) سابقاً بعد أن كان النظام الماركسي الحاكم هناك قد عمل على القضاء على سلطة القبائل .
وما يزال زعماء القبائل والعشائر هم أساس سلطة الدولة في المناطق الريفية، ويقتصر دور المسؤولين الحكوميين المدنيين والعسكريين على الإشراف على القضايا العامة فيما يتولى مشائخ القبائل الكبار والمحليين إدارة شؤون قبائلهم وحل مشكلاتهم، وتمثيلهم لدى السلطات الرسمية التي تعترف رسمياً بهم وبدورهم وتعتمد تعيين المشائخ كجزء من واجهات السلطة المحلية .
و الآن مع المادة المرئية عن القبائل اليمنية
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع