من النكبة إلى النكسة إلى....
بيرتوس هندريكس - ترجمة: شعلان شريفتنشغل معظم وسائل الإعلام العربية هذه الأيام باستعادة الأحداث الدرامية التي غيرت وجه المنطقة والتي حدثت في مثل هذه الأيام قبل أربعين عاماً. ولعلّ العنوان الذي اختارته قناة الجزيرة الفضائية لبرنامجها الوثائقي "الجـرح المفتوح" يعكس الشعور العام في العالم العربي: الهزيمة الساحقة التي تعرض لها العرب قبل أربعين عاماً لم تغلق صفحاتها بعد، ولا تزال آثارها واضحة في كل شيء.
اعتبر العرب تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 وما رافقها من نزوح كبير للاجئين الفلسطينيين الذين شردوا من بيوتهم وقراهم، كارثة حقيقية، فأطلقوا عليها تسمية "النكبة". لكن المسئولية عن حدوث تلك النكبة ألقيت بشكل كامل على عاتق الحكومات العربية الموالية للقوى الاستعمارية الغربية. وفي العقد اللاحق لتلك النكبة أطيح بكثير من تلك الحكومات على أيدي ثوريين من القوميين العرب. كان رائد هذا الانقلاب الثوري في العالم العربي وقائده في ما بعد هو الزعيم المصري "جمال عبد الناصر". وكان أنصاره ومحبوه في كل البلدان العربية يتابعون خطاباته عبر إذاعة "صوت العرب" المصرية، التي يمكن مقارنتها في شعبيتها ودرجة تأثيرها بفضائية الجزيرة حالياً.
علق الفلسطينيون ومعظم العرب كلّ آمالهم على عبد الناصر والحركة القومية العربية لإزالة آثار الهزيمة والظلم الذي لحق بهم في عام 1948. وصار عبد الناصر مضطراً لاستكمال هذا الدور الذي أنيط به مما دفعه إلى تبني خطاب تهديدي عنيف واستخدام أسلوب دعائي هستيري ضدّ إسرائيل في زمن لا تزال فيه ذكريات "المحرقة" النازية حية في ذاكرة الإسرائيليين والغربيين عموماً. لم يكن عبد الناصر جاداً في تنفيذ تهديداته ولم يكن بوسعه ذلك، إلا أنه أصبح دون أن يدري أسيراً لذلك الخطاب الذي تبناه ولم يجد بداً من مواصلته.
بالرغم من أن الجنرالات الإسرائيليين كانوا على بينة كاملة من حقيقة توازن القوى على الأرض ويدركون أن تلك الدعاية الهسترية المصرية والعربية لن تتجاوز الخطب الرنانة، فإن ذلك الخطاب أتاح لإسرائيل فرصة ذهبية لكسب الرأي العالم العالمي وأن تأخذ زمام المبادرة فتبدأ هي بالحرب دون اعتراض من الولايات المتحدة والغرب الذي كان متفهماً عموماً إن لم يكن مؤيداً لحربها الاستباقية.
في هجوم مباغت تمكنت إسرائيل من هزيمة وتحييد القوات العربية المشتركة، المصرية والسورية والأردنية، واحتلت الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، وصحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. هكذا تلقى العرب للمرة الثانية خلال عقدين ضربة ساحقة. لكنهم لم يسموها "نكبة" هذه المرة، بل قالوا إنها "نكسة"، بما تحمله هذه الكلمة من دلالة الحالة المؤقتة التي ستزول قريباً.
إنها نكسة بالفعل، لكنها نكسة هائلة، بل نكسة قاتلة، لكن العرب ظلوا متشبثين بوهم أنهم "خسروا معركة ولم يخسروا الحرب". ولم يفقدوا أملهم، ولو لبضع سنوات لاحقة، بنهضة الحركة القومية العربية وزعيمها عبد الناصر من تلك النكسة. لكن كلما طال الزمن ولم تحدث النهضة تغيرت النظرة العربية إلى تلك النكسة، وبدأ الإدراك يتزايد بحقيقة الهزيمة.
فالحرب اللاحقة، في أكتوبر 1973، لم تضع هي الأخرى نهاية للاحتلال، ولم ترجع اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وفي بعض الكتابات النقدية العربية حول حرب أكتوبر استبدل تعبير "حرب التحرير" الذي كان يطلق علت تلك الحرب بمصطلح "حرب التحريك": لم تهدف تلك الحرب إلا إلى تحريك الأوضاع في الجبهة من أجل خلق وضع تفاوضي أفضل. وبالفعل، فبعد تلك الحرب بستة أعوام عقد الرئيس المصري "أنور السادات" اتفاقية الصلح مع إسرائيل استعاد بموجبها صحراء سيناء، بينما بقيت هضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
الآن، وبعد مرور أربعين عاماً على حرب حزيران/ يونيو لم يعد تعبير "النكسة" مقنعاً لمعظم العرب، بالتأكيد بما يعنيه من أنه نكسة مؤقتة في الطريق إلى النصر الشامل، بل أصبح يـُنظر إليها باعتبارها نقطة التحول التي بدأ منها انحدار مشروع "القومية العربية، وتدهور تلك الإيديولوجيا لتخلي مكانها للبديل الجديد: الأصولية الإسلامية.
لذلك ليس من المستغرب أن يصف أحد كبار منظري السلفية الجهادية "أبو الوليد المصري" هزيمة العرب في تلك الحرب بـ "النعمة الكبرى". يكمن سبب كل تلك الهزائم في نظر دعاة الأصولية الإسلامية في ابتعاد المجتمعات العربية عن الإسلام. ولا يرون أفقاً للحل إلا عبر العودة إلى الإسلام الصحيح والنقي من أجل استعادة الحقوق وتحقيق النصر.
لم يكن انهيار المشروع القومي العربي شاملاً أو نهائياً، على الأقل ظاهرياً، بسبب استمراره عبر نسخة فلسطينية خاصة من القومية بقيادة ياسر عرفات. فبعد أن خابت آمال الفلسطينيين في أشقائهم من الدول العربية قرروا بعد 1967 أن يأخذوا زمام المبادرة في أيديهم. وبعد سنوات من الكفاح الفلسطيني وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ظهر بصيص أمل في تحقيق السلام وإنهاء الصراع عبر اتفاقيات أوسلو عام 1993. لكن فرص السلام التي تبدت في تلك الاتفاقيات انهارت في ما بعد أمام سياسة إسرائيل في توسيع مستوطناتها، وأمام الإدارة السيئة والعجز الذي ظهرت عليه السلطة الفلسطينية التي تشكلت على أساس اتفاقيات أوسلو بزعامة عرفات وحزبه "فتح".
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات عام 2006 أصبح المشروع السياسي الإسلامي مهيمناً حتى على المسرح الفلسطيني. ويرى كثير من المعلقين والسياسيين العرب أن الرفض الإسرائيلي والغربي للاعتراف بفوز حركة حماس، والإصرار على مقاطعتها ليس سوى دليل جديد على النظرة الأحادية الداعمة لإسرائيل وعلى سياسة الكيل بمكيالين في الغرب. كما أنّ هذه المقاطعة لن تساعد في كسب الأصوات البراغماتية داخل حركة حماس صوب الموافقة على صفقة تاريخية تتمثل في قبول "حلّ الدولتين"، وهو الحلّ الذي كان الرئيس الراحل ياسر عرفات مستعداً لقبوله.
عنوان برنامج"الجزيرة" بمناسبة الذكرى الأربعين للحرب يحمل رسالة واضحة: الجرح المفتوح منذ عام 1967 لم يلتئم بعد، بل ولا زال ملتهباً، مع ما يحمله ذلك من أخطار العدوى التي لا تـُعرف عواقبها.
الجزء الأول:الجزء الثاني: