مهندسو الطبيعة


النحل الذي يصنع شهدا سداسيّ الأضلاع بكل إتقان، والقنادس التي تبني سدودًا وفق حسابات هندسية دقيقة جدا، والنمل الأبيض الذي يشيد ناطحات سحاب بالرّغم من كونه أعمى لا يرى، والطيور النساجة والزنبور الذي يبني عمارات من الورق، والعناكب المتخصصة في النسج ومعماريون ومهندسون آخرون في الطبيعة...
جميع هذه الكائنات الحية تترك آثارا هندسية مدهشة في الطبيعة. وفي الحقيقة فهذه الكائنات تكشف لنا الإمكانيات العظيمة التي منحها الله إياها. وكلّ كائن من هذه الكائنات يتصرف وفق الإلهام الإلهي له. ومثلما ورد في القرآن الكريم: " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (هورد، 5)
سوف تشاهدون في هذا الفيلم براعة هؤلاء المهندسين الموجودين في الطبيعة وسوف لن تستطيعوا أن تتمالكوا أنفسكم من الدهشة أمام الخصائص التي منحها الله تعالى إياها.

وللنمل الأبيض ممالك!

المعروف عن النمل الأبيض انه من الحشرات الاجتماعية شديدة التنظيم و لديها سلوكيات تعد من العجائب فى عالم الحشرات. و يرى بعض العلماء أن النمل الأبيض هو دابة الأرض التي أكلت عصا سليمان المشار إليها في قوله تعالى : (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) [سورة سبأ] الأية (14).


و هذه الحشرات لا تنتمي و لا تمت بأي صلة للنمل الحقيقي كما يبدو من الاسم أو كما تتعامل معها بعض المقالات المنشورة على شبكة المعلومات الدولية و التي تخلط المعلومات الخاصة بكلتا الحشرتين معا و من السهل التمييز بين النوعين بمقارنة قاعدة البطن عند اتصالها مع الصدر حيث يكون للنمل الحقيقي خصر (جزء أضيق من الصدر) بينما عرض هذه المنطقة في النمل الأبيض مماثل لعرض الصدر و تكون قرون الاستشعار في النمل الحقيقي منثنية مثل المرفق أما في النمل الأبيض فهي تشبه القلادة أو المسبحة. هذا بالإضافة إلى الاختلافات الكبيرة في طبائع التغذية و السلوكيات.


و قبل الدخول إلى هذا العالم المتميز هناك بعض الحقائق التي تتعلق بهذه الكائنات الذكية يجب الإطلاع عليها:

- ينتمي النمل الأبيض لرتبة متماثلة الأجنحة و لا يوجد معه تحت هذه الرتبة اى حشرات أخرى و هو ما يعنى أنها ذات صفات متفردة.
- يوجد أكثر من آلفي نوع من حشرات النمل الأبيض في مختلف أنحاء العالم و خاصة في المناطق الاستوائية.
- النمل الأبيض أعمى حيث يعيش كل حياته في أنفاق مظلمة و يعتمد في تواصله مع بعضه عن طريق الشم و التذوق حيث يتم تبادل مواد كيميائية تفرز بواسطة الحشرة تعطى دلائل و معاني كثيرة و مختلفة.
- يعتمد وجود المستعمرة على وجود الملكة و الملك اللذان يتركز دورهما في عملية التكاثر و إنتاج البيض. و يزداد حجم الملكة بعد إخصابها حيث يصل طولها لحوالى 9 سنتيمتر و تبدو خلال حياتها و كأنها آلة لإنتاج البيض حيث تبقى مكانها لا تتحرك و يقوم على خدمتها و تغذيتها طاقم من الشغالات.
- تضع الملكة حوالي 10 ملايين بيضة خلال حياتها التي قد تصل إلى 10 سنوات.
- أهم أعداء هذه الحشرة النمل الحقيقي و حيوان آكل النمل.

يبدأ تكوين المستعمرة الجديدة عندما تخرج الملكات و الملوك, و هم في هذه المرحلة مزودين بأجنحة, على شكل أسراب باحثين عن مكان مناسب لإقامة المستعمرة و عند وجود هذا المكان يهبطوا على الأرض و تقصف أجنحتهم ثم يبدأون بحفر غرفة صغيرة في أي شق في التربة الناعمة. يزحف الزوجان إلى داخل هذه الغرفة ثم يغلقوها و يبدءوا في التزاوج و منذ هذه اللحظة لا يغادران مكانيهما في الأنفاق. تضع الملكة المجموعة الأولى من البيض و التي تحتوى على 6- 12 بيضة خلال عدة أيام أو أسبوع من التزاوج و بعد الفقس يقوم الملك و الملكة برعاية الصغار الذين يقومون عند نموهم برعاية الصغار في المراحل التالية و هكذا تنمو المستعمرة بزيادة عدد الأفراد.

تعمر الملكة و الملك أكثر من باقي الأفراد في المستعمرة حيث يمتد عمرهم إلى عشر سنوات أو أكثر ينتجون خلالها الآلاف من الأفراد . يصل عد الشغالات في المستعمرة بعد اكتمال نموها (6- 7 سنوات) حوالي 60 ألف شغالة. يبدأ النمل في إقامة العديد من الأنفاق التي تحميه من الجفاف و من الافتراس و هي تبنى من خامات مختلفة و لأغراض متنوعة. الأنفاق الاستكشافية و هي مصنوعة من الطين و المواد الإخراجية. عند اكتشاف مكان به مصدر غذاء يقوم ببناء أنفاق تسمى أنفاق العمل و هي تمثل الطرق السريعة للنمل حيث تربطه بمصادر الغذاء. في بعض الأحيان يصنع أنفاق من ألياف الخشب تربطه بأي من المنتجات الخشبية. و هناك نوع من الأنفاق يسهل عملية البحث عن الغذاء بواسطة الأفراد المجنحة و تكون فوق سطح الأرض بحوالى 4- 8 بوصة.

ويمكن تقسيم الأرضة إلى مجموعتين حسب أماكن معيشتها:
- مجموعة يعيش أفرادها دومًا فوق سطح الأرض و لها أنفاقا طينية طويلة ومتشعبة على عوائلها الغذائية
- مجموعة يعيش أفرادها تحت سطح الأرض حيث تخزن غذاؤها داخل غرف أو مخازن خاصة بالمستعمرة. وتتميز هذه الأنواع بأن لها تلال فوق سطح الأرض.
و من حيث الطبائع الغذائية يوجد مجموعتان من النمل الأبيض:
- مجموعة بدائية
و غذائها الرئيسي الأخشاب و لكنها غير قادرة على إفراز الأنزيمات الهاضمة له . تاوى هذه المجموعة من النمل الأبيض في القناة الهضمية العديد من الكائنات الدقيقة و عند دخول الخشب إلى القناة الهضمية للنمل تأكل هذه الكائنات قطع من الخشب و لكنها أيضا لا تستطيع هضمه و تعتمد على أنواع من البكتيريا لهذا الغرض تأويها في داخلها لتحويل الخشب إلى طاقة يستفيد
منها البكتريا نفسها و البروتوزوا و النمل الأبيض.
- المجموعة الثانية تسمى النمل الأبيض الباني
و تعتمد في هضم الخشب على مزارع الفطر التي تقيمها داخل المستعمرة حيث تحمل الخشب إلى داخل العش و تتقيأه على الفطر الذي يحلل الخشب بعد ذلك يتغذى النمل على الفطر و ما به من خشب مهضوم.

ضمن النظام الوظيفي الصارم تقع مسؤولية الدفاع عن العش عند النمل الأبيض على عاتق الجنود الصغيرة الحجم نسبياً، أما الحراس الملكيون و هم عادةً يكونون أكبر حجماً يقومون بالاعتناء باليرقات ويمنعون أي دخيل من دخول الخلية الملكية. في حين يساعد الجنود الصغار العمال في جمع الطعام وترتيب العش.


و الحرس الملكي جسمه متحور للقتال، إذ يمتلك أفراده رؤوساً كبيرة الحجم و فكوك قوية كبيرة حادة. يلتزم الجنود بأداء مهامهم التي تتركز في الدفاع عن مستعمرتهم التي تحوى أبنية مصممة بأسلوب هندسي عبقري و أفراد و أغذية محفوظة بشكل متقن. و تتدرج أساليب الدفاع حسب مقدار الخطر الذي تواجهه المستعمرة فهي تعمل على سد مداخل المستعمرة بواسطة رؤوسها و فكوكها الكبيرة لمنع دخول الغزاة و إذا استدعت الحاجة و كان الهجوم شرساً يقوم الجنود بإفراز مواد كيميائية تحتل 10% من وزن الحشرة مخزنه في أكياس يحملها الحارس في مقدمة جسمه في الغدة الجبهية. يقوم الحرس الملكي بحقن هذا السائل داخل الجروح التي أحدثوها للدخيل باستخدام فكوكهم. هذا السائل عبارة عن مادة مانعة لتجلط الدم يعمل على عدم التئام الجروح مما يؤدى إلى موت الأعداء.


و هناك أسلوب أخير يتبعه النمل الأبيض إذا ما فشلت الوسائل السابقة حيث يقوم بالتضحية بنفسه في سبيل الحفاظ على سلامة المستعمرة وإلحاق الخسائر بالأعداء، إلا أن أسلوب التنفيذ يختلف باختلاف نوع النمل الأبيض. على سبيل المثال في الغابات الاستوائية بماليزيا يبدو النمل الأبيض و كأنه قنابل تسير على الأرض ففي اللحظة المناسبة تتقلص عضلات بطن الحشرة و تعصر الأنسجة الليمفاوية مما يؤدى إلى تمزق الأكياس المحتوية على المواد الكيميائية و انفجارها في وجه الغزاة و هي عملية فدائية بالمعنى الحرفي للكلمة حيث أن هذا السلوك يتسبب في أضرار بالغة للأجهزة الداخلية للحشرة و بالتالي موتها.


و بالتأكيد فأن تناسق كهذا لا يمكن أن يفسر على انه يحدث بطريق المصادفة، فالنمل الأبيض بالتأكيد ليس عالماً كيميائياً يفهم آلية تجلط الدم، ويقوم بناءً على ذلك بإعداد المادة المعطلة لهذا النظام. إن النمل الأبيض يقوم بالواجبات التي أوحى بها الله إليه بجد واجتهاد. يقول تعالى في القرآن الكريم : ( أنى توكلت على الله ربى و ربكم ما مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(هود: الآية56).


قام فريق بحثي من العلماء ذوى التخصصات المختلفة من مهندسين معماريين و علماء الحشرات بالنظر في إمكانية تصميم مباني مماثلة لما يبنيه النمل الأبيض لما لهذه المباني من مميزات يحتاج إليها البشر. و يمول هذا المشروع المجلس البريطاني للبحوث الهندسية و الفيزيائية و يقوم بالدراسة علماء من جامعتي كمبريدج و لوفبروف البريطانيتين و آخرون من الولايات المتحدة.

أجري البحث في صحراء ناميبيا حيث توجد المباني العالية التي يقيمها النمل الأبيض.
يقوم النمل الأبيض باستخدام تقنية في البناء تجعل المستعمرة بها تنظيم حراري دقيق يستجيب لتأثيرات الظروف الجوية المتغيرة خارجيا و داخليا و تحافظ على التوازن داخل المستعمرة لتناسب حياة النمل و أيضا نمو مزارع الفطر. كما إنها تحتاج للقليل أو قد لا تحتاج إلى الخدمات الميكانيكية (مثل التهوية و التدفئة) و بالتالي استخدام طاقة اقل و إخراج عوادم و ملوثات طفيفة.


يبنى النمل فوق أعشاشه التي تحت الأرض تلال تعتبر أعلى بناء يقيمه كائن غير الإنسان حيث يصل ارتفاعها لثلاثة أمتار و كأنها ناطحات سحاب وسط الصحراء و لا يستخدمها النمل في المعيشة. هذا التل و الذي يشترك في بناءه حوالي مليون عامل مزود بشبكة كثيفة من الأنفاق. و يتكون التل من الأجزاء التالية:

1- المدخنة المركزية
و هي عبارة عن قبة مفرغة تقع رأسيا فوق العش و ليست لها فتحة للخارج و لكن لها غطاء
ترابي مثقب.
2- الأنابيب السطحية
عبارة عن قنوات ضيقة (20- 30 مم ) في الجزء السفلى للسطح الخارجي للتل و التي تمر بطول التل.
3- الروابط الجانبية
عبارة عن شبكة متصلة من الأنفاق تربط بين المدخنة المركزية و الأنابيب السطحية.
بالإضافة لهذا التل يحفر العديد من أنواع النمل الأبيض مساحة واسعة تحت سطح الأرض تسمى القبو أو السرداب و الأتربة الناتجة من حفرة (حوالي متر مكعب من الأتربة لكل فدان سنويا) هي المستخدمة في بناء التل الذي يتواصل هوائه مع هواء العش. يتدلى من سقف العش تراكيب تشبه ريش المراوح مصنوعة من الطين تتحلق حول السقف و هي تشبه الترسبات الكلسية المتدلية من أسقف الكهوف و سمكها عند قاعدتها حوالي 25مم و طرفها حوالي 1مم و لذلك فهي سهلة الكسر و يتم استبدالها دوريا بواسطة النمل.


هذه الريش مغلفة بأملاح معدنية بيضاء و تستخدم لضبط برودة العش.

يزودنا عش النمل الأبيض بنظام طبيعي نموذجي يشتمل على العديد من الاحتياجات يمكن الاستفادة منه في بناء مبانينا سواء لغرض الإقامة أو العمل. فهذه البيوت تبنى بطريقة بسيطة قابلة
للتكرار و من مواد متاحة في البيئة. و هذه البيوت تحتاج لأقل كمية من الطاقة ( حوالي 10% من طاقة المستعمرة سنويا) كما أن الطاقة المستخدمة متاحة و رخيصة و متجددة مثل طاقة الرياح و الشمس و النفايات الناتجة منها قليلة جدا و يتم تدويرها في البناء أو الغذاء.

و قد يلهم هذا البناء بنوع جديد من الأبنية التي يتوافر فيها الاكتفاء الذاتي ،الصديقة للبيئة القليلة التكلفة التي تستجيب للظروف المتغيرة الداخلية و الخارجية. و قد أقيمت بالفعل مباني تحاكى ما يقيمه النمل الأبيض مثل المبنى الأدارى و التسويقي الذي أقيم في وسط مدينة هراري عاصمة زيمبابوي عام 1996 و قام بتصميمه المهندس الزيمبابوى مايكل بيرس و نال عنه جوائز دولية. هذا المبنى صمم ليكون به نظام تهوية و تبريد طبيعية لا يدخل بها اى نوع من الميكنة أو استخدام أنواع ملوثة من الطاقة و قد اقتبس المصمم من تلال النمل الأبيض طريقة بناءه لهذا المركز العملاق.

و الآن مع الفلم الوثائقي المستمد من مؤلفات الكاتب الكبير هارون يحيى